علي قطب

حين يمحو الفن الأمية الثقافية

الاحد - 06 نوفمبر 2022

Sun - 06 Nov 2022

مهما تعددت أشكال التعبير فهناك رابطة جمالية تصل بينها ومهما تنوعت نظريات الفن لا يمكن فصل المنتج الإبداعي عن سياقه الحيوي بأبعاده الحضارية والاجتماعية والنفسية، إذا كان هذا منطلقنا لفهم ماهية الفن سنجد أن الأعمال الإبداعية تنفتح جمالياتها على مرجعية حياة ثرية يمكن أن تبدد كثيرا من الأخطاء الشائعة في فهم معطيات هوية ثقافية، فمعظم أفكارنا نصوغها بعبارات جاهزة عن تصورات مسبقة تنمو بوعي أو دون وعي ويستجيب لها السياق الجمعي وربما تنطلق تلك التصورات في فضاء إنساني اتصالي صاخب حيث تتبلبل الخطابات ويلهث خلفها قليل الثقافة الذي يبحث عن مقولة يدعي بها المعرفة ويكتسب من خلالها سلطتها وبريقها.

يجري هذا الحديث بصدد انتشار الرواية في العصر الحاضر وما يجري في التصورات أن مجتمعنا العربي القديم لم ينجز أعمالا سردية كبرى مثلما يحدث الآن بعد الاتصال بالثقافة الغربية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، من يستمع إلى الحلقات الدرامية عن كتاب الأغاني للأصفهاني التي أعدها عبد الفتاح مصطفى "صاحب مولاي إني ببابك" وأخرجها محمد محمود شعبان "تلميذ طه حسين في كلية الآداب" يستنتج أن كتاب الأغاني بوابة روايات حافلة بعدد كبير من النصوص السردية تتجلى فيها الشخصيات والأحداث والمواقف المتنامية، بل هناك وحدة لكل رواية وهناك التقاء يجمع بين الروايات معا وقد أدرك الأصفهاني أن كل بيت من بيت الشعر يحمل في جمالياته ومضامينه أكثر من رواية لو أعدنا تفكيك البيت وتحليله وربطنا بين عناصره البلاغية من ناحية ومرجعيتها من البيئية من ناحية أخرى ندرك أن الواقع الذي يتحدث عنه بيت الشعر يختزن من الدراما ما يصلح لإنتاج روايات بلا حدود.

في معلقة امرئ القيس الشهيرة "قفا نبك" يستخلص المتلقي عددا من الروايات بعضها تحدث عنه القدماء في الموسوعات الأدبية كالأغاني للأصفهاني وعيون الأخبار لابن قتيبة والكامل للمبرد وغيرها، وقد استوقفني قول الشاعر:

"تضئ الظلام بالعشاء كأنها.. منارة ممسى راهب متبتل"

لأنني وجدت في البيت ما يصلح لكتابة روايتين، رواية عن المشبه ورواية عن المشبه به، الرواية الأولى عن فتاة جميلة تنير الفضاء حولها فتتعلق بها العيون والقلوب ويتبارى المتنافسون في حبها ويتعقد الموقف بينهم وتجد نفسها تبحث عن الاختيار مدعمة بذلك الجمال النادر الذي يلهم النفوس مع ملاحظة علاقة الإضاءة بثقافة التنوير فالحب ثقافة نور يحفز للإبداع ويصنع علاقات درامية، ثم يأتي الشطر الثاني من البيت وهو المشبه به ليحدثنا عن غرفة معلقة في جبل يسكنها راهب يتعبد، الكون حوله نائم والصحراء ساكنة إلا من بعض العابرين هنا وهناك، هؤلاء العابرون يهتدون بغرفة ذاك الراهب البعيدة لأنه وضع فيها سراجا يساعده على التعبد في الأسحار، ما الذي آتى بهذا الراهب في جوف ليل إلى ذاك الجبل، وأين يذهب العابرون وهم ينظرون إلى منارته؟ هذا مشروع روائي.

في بيت واحد نجد مادة لروايتين وكأن بيت الشعر يرعى بنات السرد فتخرج منه الروايات لتعيش حياة متجددة مع انتمائها لذاك الأب الفني البعيد وما يعنينا في هذا التمثيل ليس فقط أن العرب قد عرفوا الفن القصصي في كتاب الأغاني وغيره بل إن الرواية العربية خرجت من الشعر وحملتها المعلقات في نسيجها الجمالي وقدمتها في العصر العباسي بوصفها مادة ثرية يمكن إعادة إنتاجها في شكل سردي، هذا الشكل شارك فيه عدد كبير من الرواة فكل حدث في معلقة امرئ القيس وغيرها من المعلقات كان فسيلة يغرسها الراوي لتطرح شجرة قصصية يجمعها بعد ذلك مؤرخ الأدب الواعي بالفن والتاريخ معا مثل الأصفهاني ويوجهنا إلى أن بيئتنا الثقافية أدركت الحب والجمال والإبداع وكانت هذه العناصر الثلاثة ضمن مكونات هويتنا التي تحتاج إلى قراءات متجددة لاستبيان أبجديتها.