عبدالله السحيمي

الهجرة من معترك الحياة

الثلاثاء - 25 أكتوبر 2022

Tue - 25 Oct 2022

كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة هجرة فاصلة في التاريخ بين مرحلتين، وضحت فيها الصورة وارتكزت الراية ودعمت المسيرة، فوجب على المؤمنين الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ نصرة للإسلام وحماية للدين وللمسلمين.

ولم تكن الهجرة إلى المدينة الهجرة الأولى للمسلمين إذ سبقتها هجرتهم للحبشة مرتين بتوجيه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما خرج عليه السلام من مكة للطائف طلبا لنصرة الدين.

والهجرة لها مفاهيم واسعة ودلالات عدة، وتأتي بمعان وألفاظ عدة منها: الابتعاد عن، الارتحال، الاغتراب، البعد، الترك، الرحيل، المغادرة، الهجران، الانتقال، والمفارقة، وبألفاظها المتعددة في كل الأحوال تبقى مرة بمرارة الحدث الذي يلازمك ملازمة الروح، إذ تجبر عليها وأنت كاره لفعلها ونلمس ذلك من الكلمات التي خرجت من فم الرسول الكريم وهو خارج من مكة متجه إلى المدينة: «لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».

ثم أخذ مفهوم الهجرة حدودا أوسع فقد يتغرب الإنسان عن وطنه ويهاجر بغرض الدراسة أو العمل أو الاستشفاء، وقد يبتعد ويستبدل حيه السكني بحثا عن بيئة أسلم وأفضل وهناك نشأ ما سمي بالمهجر العربي، وقد نجده في بقاع الأرض من الذين هاجروا إلى بلدان أخرى ابتعادا عن الحروب والأوضاع الاقتصادية من فقر وغيره، وقد برز الكثير من الأدباء والمثقفين في ذلك، وألفوا ما يسمى بمصطلح الهجرة شعرا ونثرا ومقالة وخطابة حتى أن الأديب السوداني كتب روايته الأشهر (موسم الهجرة إلى الشمال)، ونجد مصطلح الهجرة يتداول بشكل أوسع عملا وكتابة فـ(هجرة المفاهيم) كتاب ألفه الدكتور سعد البازعي، والهجرة الافتراضية مصطلح برز في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي أشبه بالعزلة الاجتماعية عن المجتمع وحتى عن الأسرة ومن أقرب الأقربين بسبب هذه المواقع التي جعلت الكثير يهاجر بنفسه.

إن واقع الهجرة الداخلية في المجتمعات الصغيرة أصبح مطلبا بهدف التربية والابتعاد عن البيئات القريبة نسبا ودما، لما للسلبيات المترتبة على الجوار في مكان واحد، وهو واقع في كل مكان تربط أفراده أواصر القرابة فتسمى على أسماء ساكنيها من القبائل والأسر والعائلات والطوائف التي تجمعت في مكان واحد فيصبح الحي معروفا باسمهم عرفا وتأييدا.

الترابط القبلي مطلب مهم لحفظ الأنساب ووعي الأبناء بأبناء العمومة الأقرب فالأبعد، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد القبيلة الواحدة تحت مظلة البعد الافتراضي الذي أوجدته المدنية والحياة اليوم، في الوقت نفسه وجود قبيلة بعينها في حدود جغرافية واحدة من واقع موجود له من السلبيات التي لا تحمد عواقبها في جوانب مختلفة وعدة تسلك بأفرادها منحى خطيرا، تفكك أواصر الدم فتهدم القيم وتموت الفضيلة وينعى جيل نشأ في ظروف أشبه بالإلزامية بحكم الوجود الأسري في مكان بعينه.

إن المنجزات الوطنية في بناء الإنسان والمكان وتحقيق الوحدة في كل المجالات والتصحيح والتعديل والتجديد والتطوير عالجت مفهوم المدنية الحديثة وتم تعديل المسميات بما يتوافق مع الرؤية والتطلعات وهو الأمر الذي غير الكثير من المفاهيم حتى أصبح هذا الوطن وبفضل القيادة الحكيمة مجتمعا متطورا متميزا، وبدأت تأخذ المفاهيم الاجتماعية جانبها الأهم من خلال استيعاب لمفهوم التغير المجتمعي والتي تعدت مرحلة التحول إلى مرحلة التطبيق.

وتقف أمام هذا التحول تحديات أبرزها الهجرة الجماعية لجل أفراد القبيلة نفسها من حي إلى آخر فيتغير مسمى المكان إلا أن الواقع يبقى بسلبياته المنصهرة والمتأصلة وتحتاج وقفة لتدارك أزمة يصعب تلافيها إلا بعد سنوات طويلة وأجيال متتالية.

وقد أدرك هذا الأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مطلب كتبه إلى أبي موسى الأشعري في البصرة «مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا» وهذا تأكيدا للقول الحكيم «تباعدوا في الديار تقاربوا بالمودة».

فمن حقك حينما يضيق بك المكان أن تهجره.

ومن حقك حينما يضيق بك الأشخاص أن تبحث عن غيرهم.

ومن حقك حينما تضيق بك الأحوال مع القريب والصديق أن ترحل.

ومن حقك حينما تجد المكان قد انتشر فيه ما يزعجك أن تستبدله.

ومن حقك حينما تخاف على فلذات كبدك من الجهل والانحراف أن تفر بهم.

إن المسؤولية تحتم عليك في اختيار البيئة المناسبة التي تساعدك وتعزز من دورك في الاختيار الأمثل والأجمل في الإبحار بما ينفعك حينما تجد أن البيئة قد تضر بك وتلحق بك الضرر وقد يتجاوز ذلك أن تترك أبناءك فريسة لبيئة سامة أو بيئة معطلة أو بيئة تفتقد للطموح والمنافسة والشغف.

إن واقع البيئات الاجتماعية يعكس مدى العمق والبعد في الاستفادة والاستزادة من المحاولات المميزة في أن التنوع واختلاف الثقافات والاختلاط بالآخرين هو قدرة على الاستفادة من مفهوم الهجرة بمفهومها الواسع من خلال حصاد المكتسبات التي تجنيها أنت ومن معك من مهارات وسلوكيات وقيم عالية تترك أثرها عليك وتجني حصادها في ارتفاع الوعي والقيمة الاجتماعية التي تحققها فتتحقق التنمية التي تكفل العدالة الاجتماعية والحوار والتسامح والتكامل في بناء مجتمع يخضع لضوابط وقيم واحترام تتحقق من خلال المدنية التي ترتقي بأهلها وتجعل من التعايش بسلام وأمن وهي أخلاق إسلامية وجه بها ديننا الكريم.

«لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»، أي لا هجرة من مكة للمدينة بعد فتح مكة، إذ أمن المسلم من المشركين على دينه ونفسه وماله وعرضه، لكن الهجرة بمفهومها الواسع جهاد ونية لمفارقة كل ما يسيء لك في دينك ونفسك وأهل بيتك.

نحن اليوم بحاجة ماسة إلى الاستفادة من مفهوم الهجرة البيئية والاجتماعية التي ترتفع وترتقي بنا لمواصلة التطور والتغير الاجتماعي، ولعل جهود الدولة - وفقها الله - ساهمت في وجود المشاريع العملاقة التي نشهدها في كثير من مناطق المملكة بتجديد المواقع والأحياء والحفاظ على الهوية التي ترسم صورة الإنسان السعودي الذي يجب أن تكون مسايرة لهذا التطور الذي نعتز ونفتخر به.

ولعل التقدم من أجل الوطن هو أجمل حالا، وفي ذلك يقول خليل مطران «عليكم أن تناضلوا في سبيل التقدم وتزيلوا العقبات التي تعترضه ليكون أسرع وأشمل وأبقى أثرا».