خالد عمر حشوان

العين القوصية بجدة التاريخية (عين فرج يسر)

السبت - 06 أغسطس 2022

Sat - 06 Aug 2022

هي عين عجيبة عندما تقف أمامها ترى لمحة من تاريخ الأجداد وتاريخ جدة القديمة وتقف احتراما لمن قام بهذا المشروع الخيري الذي كان له أهمية كبرى ودور رئيس في حياة سكان جدة وكيف كان الناس في ذلك الزمان يجدون حلولا لمشاكل المياه التي كانت سببا من أسباب الحياة؛ فأصبحت هذه العين مصدرا نفيسا وثمينا للمياه العذبة التي كانت تباع علنا في ذلك الزمان لندرتها وقلة مصادرها، فهي معلم من أبرز معالم مدينة جدة التاريخية وتقع في موقع استراتيجي بين حارة المظلوم وحارة اليمن بسوق العلوي شمال شرق بيت نصيف التاريخي (بيت الضيافة لكل من زار الحجاز سابقا)، وحسب المصادر التاريخية أن هذه العين تم حفرها، لسقيا أهالي جدة وزوارها في ذلك الوقت.

كان السلطان قانصوه الغوري حاكما للحجاز (وهو آخر سلاطين المماليك البرجية) والذي أقام حول مدينة جدة سور مرتفع يحيط بها من كل الجهات في عام 915 هجري لحمايتها من الغارات والغزوات وتخلل السور سبع بوابات تقفل بعد صلاة العشاء وتفتح مع أذان الفجر الأول، وكان ضمن اهتماماته حل مشكلة مياه جدة لأهلها وزوارها واستقر الحال بعد التشاور مع مساعديه على جلب المياه من وادي قوص (والبعض يسميه قوس) للعين القوصية، وتولى بعده السلطان العثماني سليم الأول إعادة صيانة هذه العين في عام 933 هجري، وكانت العين القوصية مستمرة في الجريان يتخللها بعض الانقطاعات والتوقفات البسيطة حتى عام 1270هـ، ثم بدأت قصة التاجر فرج يسر أحد أعيان مدينة جدة في صيانة وترميم وإعادة فتح العين بمساعدة بعض تجار وأعيان جدة في ذلك الوقت واستمرت 34 عاما، ثم أهملت وتوقفت في عام 1304هـ.

تاريخيا عرفت هذه العين بأنها كانت تستمد مياهها من وادي قوص شرق مدينة جدة بحوالي 20 كلم، وبالتحديد يقع هذا الوادي شمال أبرق الرغامة وشرق كوبري ولي العهد بجدة (حاليا) وتم اكتشاف بقايا آثار القناة في الوادي، وكان الماء يصل لها عبر قنوات سرية تحت الأرض، وأما ارتباطها باسم فرج يسر الذي كان أحد أعيان وأخيار جدة القدماء وكان محبا للخير لأهل جدة وزوارها وأبدى اهتماما كبيرا بهذه العين وضرورة الاستفادة منها، فقد كانت التسمية بسبب أن السيد فرج يسر قام بصيانتها وترميمها وإعادة فتحها في عام 1270هـ الموافق 1853م، هو وبعض تجار وأعيان جدة القدامى، بعد طمرها سابقا، وأصبحت آنذاك تجود بالمياه بفضل الله لأهالي جدة وحتى عام 1304هـ، والجدير بالذكر أن السيد فرج يسر له مسجد قديم وتاريخي باسمه أيضا يسمى «بمسجد الفرج» في حارة الشام ومطل على شارع الذهب ولا زال المسجد قائما إلى يومنا هذا.

هي عين ماء على عمق أكثر من 8 أمتار وبمساحة 12 مترا ولها 7 أحواض موصلة بقناة مائية يتخللها درج للنزول إليها، وكان اختيار موقع العين موفقا بحكم وجوده بين حارتين رئيسيتين من أقدم حواري مدينة جدة التاريخية وهما حارة المظلوم وحارة اليمن بالإضافة إلى حارة الشام وحارة البحر التي تعتبر جزءا من حارة اليمن، ويذكر أن تدفق المياه بها استمر لأكثر من 400 عام ولو شابها بعض الانقطاعات البسيطة كما ذكرنا سلفا، وتم بناء محتويات العين من الحجر المنقبي (الحجر الجيري المرجاني) والأقواص الرخامية بنظام هندسي متقن لتصريف المياه والذي يدل على مدى تقدم العمارة بجدة القديمة في ذلك الزمان من خلال الوسائل والطرق الهندسية ومواد البناء المحلية المستخدمة سابقا.

كانت العين القوصية مصدرا رئيسيا للمياه لأهالي جدة في ذلك الزمان، ولكن تكمن أيضا أهميتها وفضلها على أهالي جدة (بعد فضل الله عز وجل) في قصة حصار البرتغاليين لمدينة جدة عام 1517م حيث أسهمت العين في عدم استسلام أهالي جدة للبرتغاليين وصمودهم الكبير أمام هذا الحصار بتوفير كميات كبيرة من مياه الشرب عن طريق ممراتها السرية من وادي قوص شرق مدينة جدة.

بعد توقف جريان العين وظهور مصادر بديلة للمياه في جدة وردم موقعها لعقود طويلة بدأت في عام 1414هـ عملية البحث عن طريق فريق عمل من بلدية جدة التاريخية يترأسه المهندس سامي نوار (رئيس بلدية جدة التاريخية) في ذلك الوقت الذي أوكل مهمة الحفر والتنقيب لستة من أبناء ومعلمي المنطقة التاريخية وهم «المعلم أحمد عشري – وحسن محول – وعبدالله سمندر – وأحمد بخاري – وأحمد قاسم – وأحمد مليباري» الذين بدؤوا الحفر في المنطقة المحددة للعين التاريخية في سوق العلوي حيث ذكرت بعض المصادر أن السيد محمد حسن حبيب الشهير بالريس (نسبة لجده لأبيه عبدالكريم حبيب الريس رئيس بلدية جدة في عام 1306هـ) تمكن من تحديد موقع العين للمهندس سامي نوار والذي بادر بعملية الحفر والتنقيب، وبذل المعلمون وفريق العمل جهودا كبيرة في الحفر حتى تم الوصول إلى عقود دائرية كانت البداية على تأكيد موقع العين ثم استمروا في إزالة الأتربة من عمق الأرض بعناية فائقة حتى ظهرت بعدها مسارات العين بظهور الحجر المنقبي وعثر على قطع أثرية داخل الأرض وتم تتبع المسارات حتى بدأت تظهر المناهل (مكان تخزين المياه) وهو ما يسميه البعض الصهاريج.

وأختم بهذه الرسالة التي أتمنى من المسؤولين في الأمانة أخذها بعين الاعتبار، خاصة بعد زيارتي للعين القوصية ورأيت حال العين غير الجيدة والتي لا تتناسب مع تاريخها العريق وأهميتها لأهالي مدينة جدة كأحد أهم المعالم السياحية في تاريخها، خصوصا بعد إعلان ولي العهد في سبتمبر 2021م إطلاق مشروع إعادة إحياء جدة التاريخية وبعد قرار نزع الملكيات في المنطقة مؤخرا والذي أتمنى أن يتم إزالة الدكاكين الجنوبية (المعارض) للعين التي تحجبها عن مسار الحج التاريخي لتظهر للزوار من هذا المسار، وإنشاء ساحة للزوار أمامها للاطلاع على العين والتقاط الصور لها بعد صيانتها وترميمها وتحسين مظهرها الحالي بالشكل الذي يناسبها، خاصة أنها قريبة من بيت نصيف الذي يجذب كثيرا من الحجاج والمعتمرين وزوار مدينة جدة التاريخية له طيلة السنة، وأعلم أن الأمانة لديها الكثير من الأولويات ولكن لن يتم الإحساس بقيمة اكتشاف هذه العين التاريخية والجهود التي بذلت سابقا من أجل هذا الاكتشاف المميز وهي بهذه الحالة غير الجيدة، بل يتم ذلك بسرعة اتخاذ إجراءات لتحسين وتطوير وضعها الحالي وإعدادها كمعلم سياحي تاريخي للزوار والحجاج والمعتمرين للمنطقة التاريخية بعد الجهود الجبارة المبذولة لإحياء تاريخ هذه المنطقة التاريخية العريقة ضمن رؤية المملكة 2030.