صهيب الصالح

السودان بين الاحتراب والاغتراب

السبت - 30 يوليو 2022

Sat - 30 Jul 2022

تحظى السودان بقطر شاسع وبثراء ضخم في الموارد الطبيعية والبشرية، فهي الدولة الأولى في العالم من حيث إنتاج الصمغ العربي، ولديها ما يزيد على 130 مليون رأس من الماشية، وتبلغ حصتها في مياه النيل 18.5 تريليون م3، كما تغطي المعادن التي تشمل الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها حوالي 46% من مساحتها، وهي إضافة إلى كل ذلك تصدر النفط والقطن وعشرات المنتجات الزراعية، ويتجاوز عدد سكانها 41 مليون نسمة، لكنها وعلى الرغم من امتلاكها كل تلك المقدرات الضخمة قد أخفقت في إدارة شؤونها كل الأنظمة السياسية المتعاقبة، وباتت تتقلب بين الأزمات والتطلعات إلى الإصلاح وتحسن الحال.

وفي الأسبوع الماضي أصدر نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو، بيانا تناول فيه الوضع السياسي في السودان، وانطلق فيه من واقع ما يراه من الأزمات التي تمر بها بلاده، إذ وصفها بأنها «الأخطر في تاريخ السودان الوطني الحديث» ورأى أنها تهدد وحدة السودان وسلامتها وأمنها ونسيجها الاجتماعي، داعيا كل القوى السياسية إلى الاحتكام بالعقلانية للوصول إلى حلول سياسية ناجعة لتلك الأزمات، ثم أعلن في البيان نفسه انسحاب المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي؛ لإتاحة الفرصة لحوار القوى السياسية، التي رحبت بدورها بهذا البيان واعتبرته خطوة متقدمة لحل الأزمة السياسية، لكن ما طبيعة هذه الأزمة؟

إن دولة السودان قدر لها أن تكون دولة مأزومة منذ لحظة ولادتها بالشكل الحديث في عام 1956م، عودا على الظروف غير الصحية لتشييدها؛ إذ لم تنشأ نشأة طبيعية جراء عقد اجتماعي أو حاجة مجتمعية للتنظيم، ولم يكن بناؤها نتاج تفاعل تلقائي بين مكونات مجتمعها ومحيطه، بل تعود نشأتها إلى تدخلات خارجية كونها مرت قبل مخاضها هذا بمرحلتين مهمتين: الأولى عندما كانت تحت الحكم العثماني، والثانية عندما وقعت تحت وطأة الاستعمار البريطاني، الأمر الذي صب كل أثره على ضرب الهوية السودانية الجامعة وقيم العيش المشترك، وبالتالي كان له الأثر البالغ أيضا على فشل بناء الدولة السودانية وتمزق هويتها، وملامسة هذين الأثرين فقط هو ما يعني استقرار مفهوم السودان «كدولة» في الوعي السياسي لدى مختلف المكونات، فتقدم الأزمتين أدى إلى إفراغ هذا الكيان من مضامينه حتى صارت الدولة بمؤسساتها وهويتها كيانا لا تستوعب صيغته «الكل السوداني» ولا يدمج فيها كل ما تحويه السودان من تعددية هائلة وتنوع عرقي وديني ولغوي وثقافي، وظل عمرها يكبر في التاريخ الحديث وتكبر معه هاتان الأزمتان: أزمة الهوية وأزمة بناء الدولة، فأصبحت السودان حالة مميزة لاستثارة الصراعات والاحتراب الأهلي كنتيجة طبيعية لتفاقم المشكلات التي ورثتها منذ نشأتها.

وقد أدى فشل بناء الدولة السودانية الجامعة إلى تيسير عبور الأفكار الانفصالية، وتعميق اغتراب الأساس الاجتماعي، وتشويه العلاقات بين مكونات المجتمع السوداني وتركيباته، وقد استنزف ذلك كل ما استطاع من قدرات السودان ومقدراتها، وولدت صياغة التكوين السياسي للسودان انصهارا للدولة في السلطة، حتى أصبحت السلطة تنظر إلى نفسها على أنها الكيان الحاضن للدولة وليست اللاعب الذي يذوب في كنف الدولة، وقد فتحت التطورات الأخيرة في السودان المجال أمام أبناء المجتمع السوداني ومكوناته بأن يصبحوا الفاعل الوحيد في بناء الدولة في ظل محدودية تأثير الفاعل الخارجي حاليا، وفتحت تلك التطورات المجال كذلك أمام الأمنيات بأن تجد السودان ضالتها في الروح الوحدوية والوجدان الوطني المشترك، وعلى النخب السودانية إذا ما أرادت تماثل بلادها وتصحيح مسارها التاريخي، أن ينطلقوا من احترام طبيعة التعددية والتنوع في المجتمع السوداني إلى بناء صياغة دولتهم من خلاله.

ويبقى مستقبل الأوضاع في السودان مرهونا في مقدرة كل القوى السودانية على مس جوهر الأزمة الحقيقي، ثم استشعارهم الحاجة الماسة للتماسك الداخلي، الأمر الذي يستدعي أن تكون ملامح النظام السياسي الانتقالي وشبكة علاقاته الخارجية تتشكل بهدف الوصول إلى دولة سودانية موحدة ومتنوعة في الوقت نفسه، وتنتج نظام حكم واحد يتسم بالاستقرار والاستمرارية بما يسمح بتجاوز تلك الأزمات الموروثة.

@9oba_91