بندر الزهراني

قرارات المجلس استراتيجية وتكتيكية بامتياز

الثلاثاء - 26 يوليو 2022

Tue - 26 Jul 2022

القرارات التطويرية الأخيرة الصادرة من مجلس شؤون الجامعات قرارات ترفع الرأس، وتثلج الصدر، وتبهج الخاطر، وتدعو للتفاؤل، بل وتشجعنا على مواصلة الكتابة، وطرح الآراء والأفكار الجيدة، وتدعو لاستمرارية النقد بشفافية ووضوح.والواقع أنني وزملائي من كتاب الرأي الأكاديمي كنا ننتظر مثل هذه القرارات كما ينتظر الصائم وقت إفطاره، وقد لا تتخيلون مشاعر الفرح والابتهاج التي تتملكنا وتغشانا من وقت لآخر بعد صدور هذه القرارات الإيجابية، وخاصة أن كل قرارات المجلس لامست كثيرا مما كتبنا عنه، أو أشرنا إليه، بل إننا نشعر وكأنما رئيس المجلس وأعضاؤه قد جعلوا بعضا من مقالاتنا مسودة أمامهم، أو على أقل تقدير كانت حاضرة في جدول أعمالهم ومناقشاتهم.

كنت قد ناقشت الخلل الهيكلي في كثرة وكلاء رؤساء الجامعات، ووكلاء عميدي الكليات، وأن كثرتهم ما هي إلا عبء إداري، سلبياته أكثر من إيجابياته، وأنها حالة تتفرد بها جامعاتنا عن غيرها، فجاء قرار المجلس مؤيدا لما كنا نقول، واقتصر القرار وكالات الجامعة على ثلاث وكالات، بعد أن بلغت في بعض الجامعات ستا وسبعا، ووكالات الكلية على اثنتين بعد أن كانت أربعا وخمسا، وهذا الترشيد في وضع القيادات الأكاديمية هو عين الصواب، ونقطة انطلاق صحيحة نحو تحقيق الأهداف، وسيعيد -بلا أدنى شك- بوصلة عمل الإدارة الأكاديمية إلى منحاها الصحيح.

وكنت قد ناقشت التضخم الإداري الناجم عن كثرة المراكز العلمية دونما أثر حقيقي أو مردود إيجابي، وكذلك العمادات المساندة، فجاء قرار المجلس مقننا للعدد، وضابطا للعمل، ومحددا عدد المراكز والعمادات ذات الصبغة غير الأكاديمية، وهذا قرار إيجابي، يفصل بين ما هو إداري بحت وبين ما هو أكاديمي صرف، وسيعيد مجموعة من الأكاديميين إلى طبيعتهم الأكاديمية، وإلى حمل القلم والكتابة على السبورة، وإلى معاملهم وأبحاثهم، بعد أن هجروها فترة من الزمن، وكنت أرجو أن يلغي القرار عمادتي القبول وشؤون الطلاب، ويحولهما إلى مكتب للقبول وإدارة لشؤون الطلاب، لأن عملهما عمل إداري بحت، وليس أكاديميا، وهذا هو المعمول به في كل الجامعات العالمية الكبيرة.

وكنت قد ناقشت زيادة أعداد القبول والإرباك الذي تسببه، وحال الجامعات عندما تلزم طلابها دخول أقسام علمية أو نظرية قد لا يرغبونها، والغرض من ذلك هو سد الخانات واستيعاب أكبر عدد منهم ليس إلا، فجاء قرار المجلس حاسما، ومنسجما مع الرؤية الوطنية، ومحققا أهمية زيادة القبول، وفي الوقت نفسه مهتما بالتخصصات، ومراعيا مسألة التوزيع النوعي لها، ما يجعل قضية مواءمة المخرجات لسوق العمل قضية ناجحة، ولها معنى حقيقي، فزيادة أعداد القبول هي وسيلة لبلوغ أهداف وغايات عظيمة، وليست هدفا أو غاية في حد ذاتها، وهذا ما كان غائبا عن الذهنية الإدارية في بعض الجامعات.

وكنت قد ناقشت باستفاضة مسألة استنساخ الجامعات لبرامج بعضها البعض، استنساخا تتلاشى معه عوامل التنافسية والتميز، ويضمحل في ظل وجودها مفهوم الاستدامة، فجاء قرار المجلس موافقا لما طرحناه، ومنتصرا لمبدأ التنافسية، وداعما للتميز، ومحققا مبدأ ترشيد الإنفاق وغرض الاستدامة، إذ إن القرار يدعم عودة الفروع المستنسخة برامجها إلى الجامعات الأم، ما يعني أننا سنقضي تماما على الاستنساخ، ومعه التقليد ولو كان حميدا في ظاهره، فالحاجة اليوم هي حاجة كيف، لا مجرد كم، وفي ظني أن هذا القرار يخلق هوية للجامعات، ويعطي مجالا للتمايز فيما بينها، ويأتي منسجما ومتسقا مع بقية القرارات الأخرى، والهدف منه تحقيق رؤية أكاديمية شاملة ومترابطة.

وكنت قد ناقشت تغلغل مفاهيم البيروقراطية في أعمال الإدارة الأكاديمية، وتساءلت عن أسباب وجودها في ظل أتمتة الأعمال الإدارية، فجاءت قرارات المجلس حازمة وصريحة، لتحد من هذه البيروقراطية وتقلص مستوياتها في الجامعات، في مقابل رفع مستوى (الرشاقة) التنظيمية والكفاءة في الأداء الإداري، وهذه نتيجة منطقية لحزمة القرارات التطويرية التي أقرها المجلس، ولو لم يكن من نتيجة إيجابية لهذه القرارات إلا رشاقة الإدارة وتقليص البيروقراطية فيها لكفت المجلس شكرا وتقديرا.

نحن -في الواقع- أمام قرارات استراتيجية مهمة اتخذها المجلس، قرارات تهتم بأهداف التعليم الجامعي ككتلة واحدة وعلى مدى بعيد، وهي قرارات تتعلق بالاستثمار الأمثل للطاقات البشرية والبنى التحتية، ولعل أول استراتيجية تنبثق عن هذه القرارات هي اتخاذ القرار نفسه، كما أنها قرارات تكتيكية تهتم بوضع سياسة عامة للجامعات تتواءم مع سياسة التعليم العالي في المملكة، وأول تكتيك يمكن أن نستنبطه منها هو تصحيح المسار، إذن قرارات المجلس ما هي إلا حركة تصحيحية شاملة، نرفع لها (الأشمغة) إعجابا وتقديرا، وننتظر تطبيق الجامعات لها تطبيقا ينسجم مع طبيعتها الاستراتيجية والتكتيكية.

بقي أن أقول إن ما طرحناه من نقد إعلامي هادف وموضوعي - وإن كان حادا في بعض مراحله ولطيفا ناعما في أخرى - إلا أنه أتى بما كنا نرجوه ونتأمله، ولا يعني هذا القول أن الفضل يرجع لنا وحدنا، كلا، بل إن الفضل كله - بعد الله عز وجل - يرجع لرئيس المجلس وأعضائه وخبرائه، وبما لهم من بعد نظر وفطنة، وخبرة إدارية ونظرة شمولية، وإحساس عال بالمسؤولية وضرورة التغيير الإيجابي، ونحن كتابا ونقادا سنظل معهم مراقبين وداعمين، بما نملكه من خبرة أكاديمية وحس إداري، كل في مجال تخصصه وحسب اهتمامه.

وعلى هامش موضوع القرارات هذه، كنت في حوار مع أحد الزملاء حول مضمونها الإيجابي وأهميتها الاستراتيجية، فرآني مبتهجا ومتفائلا بها، على غير العادة، فقال لي: قل شيئا من الشعر يسجل لك هذا الابتهاج، فقلت جادا: لا أجيد الشعر إذا فرحت، ولولا خشية أن يقال عني (مجنون) لذهبت بنفسي إلى مقر المجلس، ودخلت عليهم بعرضة شعبية، مهنئا وشاكرا لعملهم وحسن صنيعهم، ولو أن الشاعرين المبدعين عبدالواحد بن سعود أو علي بن حمري يسعفني أحدهما ببيتي عرضة أو زامل لفعلت.

drbmaz@