صهيب الصالح

الثابت والمتغير في النظام الدولي

السبت - 23 يوليو 2022

Sat - 23 Jul 2022

يتفق المشتغلون في السياسة بحثا وممارسة على أن هناك حقيقة كبرى ثابتة في حقل العلاقات الدولية، هي أنه لا يوجد نظام دولي يدوم إلى الأبد، لكنهم يتباينون كثيرا في تفسير زوال وصعود تلك الأنظمة، وما قد يعتبره بعض المنظرين سببا وجيها لصعود نظام دولي قد يعتبره منظر آخر سببا في زواله، فعند الحديث مثلا عن «الديمقراطية»، نرى أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط كان قد صمم مثلثا للسلام الدائم في مقالة نشرها نهاية القرن الثامن عشر، وتعد أطروحته تلك من أهم نقاط انطلاق الفكر الليبرالي المعاصر الذي بنى النظام الدولي بعد الحرب الباردة على أسس ما يعرف بـ«نظرية السلام الديمقراطية» التي تزعم بأن النظام السياسي الديمقراطي هو أحد أهم أركان السلام العالمي الدائم، لكن هذه النظرية بما أعطته من شرعية فلسفية لتدخل الدول الديمقراطية في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت ذرائع «نشر الديمقراطية» و»دعم حقوق الإنسان» وغيرها؛ تسببت بالكثير من النتائج الكارثية على مستوى الأمن والمعيشة والرفاهية؛ حتى تحولت إلى أكبر مهدد لزوال النظام الدولي عينه.

لذا أزعم دون حرج أن بنية النظام الدولي الليبرالية

- مرحلة ما بعد الحرب الباردة- كانت هشة، بل وحملت منذ تأسيسها بذور انهيارها، والحقيقة أنها تصدعت ليس بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا كما يحلو للكثير قوله، ولكنها بدأت بالتصدع مبكرا منذ بدايات العقد الأول من هذا القرن عندما أعلن القطب الأوحد في النظام الدولي الحرب ضد هدف جديد عابر للقارات والثقافات، هدف غير محدد بجغرافيا ولا تاريخ، ولم يتفق العالم بكل فواعله ولاعبيه -حتى الآن تقريبا- على فهمه وتعريفه وتحديده بدقة، سواء من حيث العقائد العسكرية أو القدرات على كسب التمويل والتحرك بين حدود الدول، كان ذلك عندما أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن الحرب ضد «الإرهاب».

ثم أصبحت بعد ذلك كلا من العراق وأفغانستان حالتين تعمل الولايات المتحدة فيهما على نشر الديمقراطية بالقوة القسرية، وما لبث العالم بعدها أن دخل في تداعيات الأزمة المالية العالمية ليستفتح العقد الثاني من هذا القرن بالفوضى السياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإرهاصات تفكك الكتلة الليبرالية الأوروبية بعد صعود اليمين في أوروبا -خاصة أوروبا الشرقية- وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبعد هذه السلسة تجلى ضعف النظام الدولي عند الازدراء الظاهر والمتكرر من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب للمؤسسات الدولية، بما فيها حلف شمال الأطلسي.

أما ما هو متغير فهو بالطبع بنية النظام الدولي، وأذهب هنا إلى أن مستقبل النظام الدولي سيكون أحد خيارين: إما أن يكون نظاما ثنائي القطبية من خلال صعود الصين واكتفاء الدول الأوروبية بالتماشي مع السياسات الأمريكية، وبالتالي العودة إلى بنية واقعية للنظام الدولي تكون ملاحمها قريبة من سنوات الحرب الباردة، أما الخيار الثاني -وهو الأرجح- أنه سيكون نظاما متعدد الأقطاب تكون فيه روسيا قطبا رئيسا؛ لأن الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والصين ستجعل روسيا محل اختيار صعب بين معاداة العالم الغربي والاستقلال عنه وبين تحول الصين إلى خطر حقيقي يهدد بابتلاعها، وفي هذه الحالة فقط ستضطر روسيا إلى الاندفاع نحو عقد تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، وأضيف إلى ذلك أن استقلال روسيا كقطب دولي سيكون محفزا لدول الاتحاد الأوروبي بالاستقلال عن سياسات الولايات المتحدة أيضا، خاصة وأن ألمانيا تمتلك كل المقومات الاقتصادية والتقنية والصناعية للتحول بين عشية وضحاها إلى قطب تنضوي تحت لوائه العديد من الدول الأوروبية.

وفي المحصلة سيتشكل النظام الدولي الجديد وفقا لثلاث سمات رئيسة، الأولى أنه سيكون خاليا من الأيديولوجيا السياسية المهيمنة؛ لأنها لا يمكن أن تطبق إلا في ظل الأحادية القطبية، وبالتالي سيتذكر العالم «القيم الليبرالية» مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وما في حكمها على أنها ليست إلا جزءا من الفلكلور السياسي في زمن الهيمنة الأمريكية، على الرغم من أن أيديولوجيا القوميات ستشهد صعودا صاخبا لكونها الأيديولوجيا الأقوى في التاريخ البشري، إذ ظلت صامدة لا تنصهر في أعتى الأطروحات مثل العولمة، السمة الثانية هي تراجع تأثير المؤسسات الدولية مثل التكتلات الإقليمية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وبالتالي ستهتز الكثير من القواعد المنظمة لسلوك الدول بسبب فقدانها القوة المهيمنة -أحادية القطب- التي وضعت تلك القواعد وفق مصالحها ومصالحها فقط، ولكون الدول اليوم تعيش في علاقات شديدة الترابط في المجالات الاقتصادية والعسكرية؛ فقد ينشط بدلا عنها نظام الأحلاف لتحقيق درجة من الردع الآمن والضابط لسلوك الأقطاب الدولية.

أما السمة الثالثة فهي تراجع علاقات التعاون بين الدول الكبرى في مقابل اشتداد العلاقات التنافسية في الأمن بالدرجة الأولى، ثم تنافس على مناطق النفوذ في إطار محاولات كل قطب بأن يضيف على ميزان القوى رصيدا جغرافيا لصالحه يكاتف به سلطة الأقطاب الأخرى، أما القوى الإقليمية الطموحة حاليا فعليها إذا ما أرادت أن يكون لها «وزن القطب» أن تعمل على الانخراط مبكرا في أي نشاطات أو تشكلات اقتصادية؛ فالقوة الاقتصادية ستعني بالضرورة قوة عسكرية في النظام الدولي الجديد.

@9oba_91