هند علي الغامدي

عالمية اللغة العربية

الخميس - 23 يونيو 2022

Thu - 23 Jun 2022

هل يمكن أن نشبه الفتوحات الإسلامية العظيمة التي جعلت العربية تنتشر في البلاد التي تمكن منها المسلمون سابقا، بالفتوحات العلمية البحثية والتقنية التي جعلت الإنجليزية اليوم تنتشر في العالم أجمع بما فيه البلاد العربية؛ لتصبح مصدر قوة وتفوق، علاوة على كونها ضرورة للدخول إلى عالم المعرفة والعلم والتقنية والقدرة على مواجهة تحديات العولمة؟

القوة التي انتشرت بها العربية آنذاك لا تختلف كثيرا عن القوة التي يتم بها تغيير اللسان العربي اليوم - مع الفارق في الدوافع والأهداف والغايات -، قوة مسالمة سلاحها الأول الإعجاب والانبهار، ووقودها الوحدة، ورأس سنامها الثقافة بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد، وما تنطوي عليه من دلالات، أو إذا صح التعبير عالمية اللغة العربية آنذاك يقابلها عولمة اللغة الإنجليزية اليوم.

لقد تنبأ المستشرق الألماني يوهان فك باحتفاظ اللغة العربية بعالميتها حين قال «إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزا لغويا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية».

الأكيد أن العربية احتفظت بمقامها في نفوسنا دينيا؛ لأنها لغة القرآن الكريم ولغة السنة النبوية الشريفة، واحتفظت بمكانتها في نفوسنا وطنيا؛ لأنها لغة المملكة العربية السعودية الرسمية بنص المادة الأولى في نظام الحكم وتجلياتها في رؤية 2030 التي تداعت لها بنود اللوائح التنفيذية في أغلب المجالات في الدولة، واحتفظت بمكانتها عالميا يوم أن احتلت موقعها بين اللغات العالمية الستة، وهي بداهة تحتل موقعها في قلب كل عربي، والأهم كل مسلم إلى قيام الساعة شاء من شاء وأبى من أبى.

لكن غير الأكيد أنه لا يوجد ما ينبئ عن أن هذا الموقع سيتم توريثه لأبنائنا وأبنائهم في خضم هذا العشق الذي بات متبادلا بين اللغة الإنجليزية بكل حمولتها الثقافية وعولمتها الحقيقية وبينهم.

السؤال هنا، ما هذا الذي يحدث للغة العربية اليوم؟ لماذا تراجعت في قلوب أبنائنا وشبابنا بل وكهولنا؟ لماذا نستمتع بترديد الكلمات والعبارات الأجنبية في حديثنا العادي في مواقف الأسف والاعتذار والإعجاب والوداع والتعبير عن الحب وغيرها من المواقف اليومية؟ لماذا نعتقد أنها تأثيرية أكثر من العربية؟ لماذا؟ لماذا نستسهل الحديث بها؟ لماذا نعتقد أن اختيار أسماء المحلات بالإنجليزية مبهر وجاذب؟ ولماذا نكتب أسماءها الأجنبية بالحروف العربية علاوة على عدم تعريبها؟ لماذا نتباهى بإدخال أبنائنا المدارس الدولية التي هي في الأساس للجاليات الأجنبية في المملكة؟ هل نفعل ذلك لأن الإنجليزية تعدّهم للدراسة الجامعية في الداخل أو الخارج؟

لماذا يقوم التدريس الجامعي في الداخل على اللغة الإنجليزية وليس العربية؟ لماذا لم تعد العربية لغة البحث العلمي؟ لماذا يعود المبتعثون للتدريس بالإنجليزية؟ ويؤلفون بالإنجليزية؟ لماذا يقتصر إبداع المبدعين والمخترعين على الإنجليزية؟ لماذا لا يفعلون ذلك كله بالعربية؟ لماذا لا يترجمون ويعربون ويبدعون ما يكون نواة لإبداع طلابهم؟ والعجيب لماذا يتحدثون بالإنجليزية ويصرون على الحديث العادي مع الطلاب في عقر دارهم بالإنجليزية؟

لقد نصت سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية على أن اللغة العربية لغة التعليم إلا ما اقتضت الضرورة تعليمه بلغة أخرى، ومن المعلوم أن الضرورة عارضة وليست الأصل، لكن الواقع اليوم يقول إنها باتت أصلا في بعض أنواع التعليم ومراحله. إن الدولة تبتعث أبناءها ليحصّلوا آخر ما توصل إليه العلم، ثم يعودوا لنقله، والبناء عليه، والاستفادة منه في نهضة الوطن، وتفوقه، وعالميته بوصفه «المملكة العربية السعودية» بلغتها وهويتها؛ نحتاج ممن ابتعثتهم الدولة إلى الخارج أن يبنوا لنا صروح العلم والتقنية باللغة العربية؛ أن يسهموا في بناء قاعدة علمية بحثية وتقنية باللغة العربية؛ تنافس العالم وتكون نواة لعالمية حقيقية للغة العربية.

لقد بنى الغرب حضارته بعد عصور الظلام مستفيدا مما ترجم من العربية، استفادوا منه وبنوا عليه، ولكن بلغتهم وهويتهم، لم يذوبوا في ثقافتنا العربية، ولم ينتجوا بلغتنا، ولم يتوقف نجاح أبنائهم وعباقرتهم ومبدعيهم على إجادة العربية كما نفعل اليوم حين نعتقد أن الإنجليزية فقط لغة البحث العلمي والتقنية وأن العربية عاجزة عن ذلك؛ «نعيب عربيتنا والعيب فينا وما للعربية عيب سوانا».

إن من المؤسف اليوم - ونحن أبناء العربية التي وسعت كتاب الله لفظا وغاية - أن نظن أنها تضيق عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات؟ وهذا أقل ما يمكن أن تقوم به العربية؛ لأن الطموح اليوم أن تصنع الآلة وتخترع المخترعات في رحابها، وعلى أيدي أبنائها، وبلسانهم العربي المبين.