بندر الزهراني

الفلسفة الذهنية في الجامعات المحلية!

السبت - 15 يناير 2022

Sat - 15 Jan 2022

يرى البعض من الناس أنه غالبا ما تكون آراء وأفكار الأكاديمي (الفيلسوف) صعبة أو غامضة، ولا يفهمها إلا قلة قليلة، وأنه كثيرا ما تكون وجهات نظره صادمة ومباشرة، ولا يقبل النقاش في الأمور الواضحة، بخلاف موضوعات الجدل ومحفزات الفضول، وكأنما يرون ذلك عيبا أو قصورا في أسلوب تقديم الأكاديمي لنفسه، وطرح أفكاره بشكل مبسط، والواقع يقول إن الأستاذ الجامعي الذي ليس لديه وجهة نظر أكاديمية معتبرة، أو رأي محترم، أو لا يستطيع التعبير عما يريد قوله، أو لا يمكنه ممارسة النقد، هو أقرب ما يكون لـ (مدرس) متجرد من أدوات الفكر والفلسفة.

الأخلاق - وهي مجموعة من القيم والمبادئ تحكم أنماط السلوك البشري ويحكمها العقل الواعي- كانت وما زالت أحد أهم موضوعات الفلسفة قديما وحديثا، ولا أعلم فيلسوفا زعم أن تحرير العقل من كافة أشكال اضطهاده يقود إلى انحلال الأخلاق أو انحراف السلوك، أو أنه اتخذ من الفلسفة وسيلة لإثارة الجدل أو لاستعراض مخزونه الثقافي ورصيده المعرفي، بل يسخرها لاستثارة الفكر وحل المشكلات والتساؤلات العظيمة المطروحة أمام الإنسان، والفلسفة التي ندندن حولها هي فلسفة العلوم، لا تلك التي تقود إلى الضياع والتوهان أو الجنون لا سمح الله.

في حوار عابر مع عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات، حاولت قبل سنوات إقناعه بإنشاء وحدة تهتم بالفلسفة الذهنية أو على الأقل استحداث مادة عامة تعنى بفلسفة العلوم، تضاف لمتطلبات الكلية، وقلت له: إنني أتعجب من إهمال جامعاتنا لموضوعات فلسفة العقل، بل الفلسفة بشكل عام، فمنذ مدة طويلة لم تقع عيني على إعلان واحد في الجامعة يدعو لندوة تناقش موضوعا فلسفيا، فوافقني الرأي مجاملة أو ربما لم يستوعب ما قصدته بكلامي، ثم قلت له: الفلسفة تهتم بالصورة المثالية التي ينبغي أن تتحقق بناء على التأملات، بينما العلم يقتصر على التوصيف وتحليل الواقع المنظور، فزاد الغموض عليه!

لا أدري هل تتفقون معي، على ماذا؟ على أنه لا يمكن فصل فلسفة العقل عن الفعل بأي حال من الأحوال، فالعلم بلا عمل جنون، كما يقول الإمام الغزالي، وهو ما يمكن تعريفه اليوم بفلسفة الفعل، أليس الأكاديمي مرخصا (بالدكتوراه) لممارسة الفلسفة في مجال تخصصه! بلى، لماذا إذن يتوارى خلف المناصب الإدارية الباهتة والأعمال الروتينية المملة! هل استعلى على الفعل واستسلم للعقل الأداتي؟ أم أنه يبرر أفعاله ونوازع نفسه الأمارة نحو المادة، وحسبما يمليه واقع حاله وتفرضه عليه ظروف المصلحة!

ولا أدري هل أنتم مثلي! عندما أدخل جامعة أو كلية علمية، ولا أجد إلا خشبا مسندة، وجدرانا خرسانية مصمتة، وكأنما دخلت قبرا موحشا، أو مدفنا كبيرا، فلا أجد إلا خردوات وأدوات أو أموات ومومياوات، ولو أنهم -على الأقل- علقوا صورا حائطية في مداخل وممرات الكلية لعباقرة العلوم كاينشتاين وغودل وويلر وفاينمان لربما تحدثت أرواحهم مع الزوار مثلي، وانشغلنا بها عن مساءلة مسؤولي الجامعات وإدخالهم في (سوالف) لا حظ لهم فيها ولا نصيب!

إقرار مواد الفلسفة والنقد كمقررات دراسية في مراحل التعليم العام خطوة أكثر من رائعة، ونقطة إيجابية إذا ما قُدمت تلك المواد بشكل صحيح، ولكن ماذا عن الجامعات وهي محاضن الفكر والفلسفة؟ لماذا اقتصرت مفاهيم الفلسفة في بعض جامعاتنا على مواد (تافهة) في السنة التحضيرية، وفي موضوعات سطحية وقراءات هامشية في مهارات الاتصال والتفكير! ترى هل كانت مواد المهارات مجرد مداخل ومبررات لاستحداث وظائف أكاديمية لتوظيف الأقارب وحسب؟ وهل ما زال بالإمكان مراجعة أوراق تعيين الأقارب (الكتاكيت) في هذه التخصصات!

كتبت مرة مقالا، وتساءلت فيه متمنيا أن يكون رئيس الجامعة فيلسوفا ومفكرا، أو في درجة قريبة من ذلك، فأرسل لي أحد الزملاء الأفاضل تعليقا جميلا، قال فيه شيئا ما معناه: لا نريد في الجامعات طبقية أفلاطون، وإنما نريد عدل الفارابي، فأفلاطون أقام مدينته الفاضلة بمعايير عقلية بحتة، والفارابي أقامها بفضيلة العدل كمرجعية أخلاقية، فقلت له: رضيت بالفارابي نموذجا مرجعيا ومعيارا ثابتا لاختيار رؤساء الجامعات، وهذا حلم يبدو مستحيلا، بل أكثر مما نريد!

لا شك أن الاهتمام بموضوعات الفلسفة الذهنية في التعليم العام شيء جميل، ويدعو للتفاؤل على المدى البعيد، ولكن الأجمل مع هذا الاهتمام -من وجهة نظري- أن يوازيه في المسرح الأكاديمي اهتمام أكبر بموضوعات الفلسفة العميقة، والتفكير العلمي الناقد، ولن يكون ذلك ممكنا ما لم يكن رئيس الجامعة ووكلاؤه وأعضاء هيئة التدريس فلاسفة حقيقيين، لا مجرد إداريين بالتوصية أو مدرسين بمزايا فيلسوف.

drbmaz@