هند علي الغامدي

اللغة العربية: إلى ماذا تحتاج في يومها العالمي؟

الاثنين - 20 ديسمبر 2021

Mon - 20 Dec 2021

إلى ماذا تحتاج اللغة العربية في يومها العالمي؟ هل تحتاج إلى الحب؟ وهل ينقصها الحب؟ هل هناك مسلم أوعربي أو سعودي لا يحب اللغة العربية؟ هل يراهن أحد على حبنا جميعا للعربية؟ أو على مكانتها في قلوبنا؟

لا جدال في حب لغتنا العظيمة؛ لغة القرآن الكريم والسنة الشريفة، لغة العروبة والوطن، لغة الماضي والحاضر والمستقبل، لغة الهوية الدينية والعربية والوطنية؛ بل لقد أحبها وتغنى بها من سمعها ولم ينطق بها يوما، والتاريخ فيه من الأدلة كثير.

لغتنا العربية أعلى رموز هويتنا، حاملة التراث والحضارة الإسلامية والعربية، أذهلت الكون بقوتها وثباتها ووصولها متفردة إلى هنا، بعد كل تلك القرون الممتدة عبر التاريخ على الرغم من كل ما واجهته وما تواجهه من تحديات، إنها سيدة اللغات بلا منازع.

إذًا إلى ماذا تحتاج اللغة العربية اليوم؟ وماذا يمكن أن نقدِّم لها في يومها العالمي؟

إنه الأمن، نعم، الأمن هو ما تحتاج إليه اللغة العربية اليوم في ظل التحديات التي تواجهها ولاسيما تحديات العولمة؛ الأمن الوطني، الأمن العربي، الأمن الدولي والعالمي.

تحقق لها الأمن عالميا منذ قرون بعيدة، يوم أن أنزل الله -عزَّ وجلّ- القرآن الكريم عربيا، وتكفل بحفظه، وتحقق لها يوم أن شمَّر المخلصون عن سواعدهم لخدمتها ووضع قواعدها، ونشرها، والذود عنها، وتيسير تعلمها وتعليمها، والتأليف بها ولها، وإثرائها بكل ما يزيدها ألقا وتفوقا مما حملته الحضارات الإنسانية، فهذه سنة اللغات القوية؛ تؤثر وتتأثر، منتقية ما تأخذه؛ تهذبه وتنقيه وتذيبه في بحرها الزاخر بالنفائس.

وتحقق لها الأمن دوليا وسياسيا يوم أن انضمت إلى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة في 18 ديسمبر 1973، ويوم أن أصبح لها يومها العالمي في الثامن عشر من ديسمبر، الذي نعيش أجواءه كل عام في حب العربية وخدمتها، وقد كان ذلك إحدى ثمار الجهود العربية المخلصة التي لم تكتفِ بما تحقق للغة العربية؛ بل استمرت ومازالت قائمة على خدمتها وحمايتها على الأصعدة جميعها؛ جهود جبارة تتحد فيها الدول العربية والخليجية والإسلامية، والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وتُنظم المؤتمرات والمجالس، والاجتماعات والمحاضرات والندوات واللقاءات، وتُوضع السياسات والتخطيطات اللغوية، وتُتخذ القرارات، وتُستصدَر القوانين، أداءً للواجب الذي يؤهلنا للانتساب إليها، وحفظا لهويتنا، وإيمانا بأن عزتها عزةٌ للإسلام والعروبة والوطنية.

وتحقق لها الأمن على المستوى الوطني السعودي يوم أن احتلت مكانتها في المادة الأولى من المبادئ العامة للنظام الأساسي في الحكم، التي نصَّت على أن «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم، ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض»، وهو ما دعمته رؤية المملكة 2030 التي تعدُّ اللغة العربية أحد أركان تشكيل هوية المواطن السعودي وتنص على المحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني، والتعريف به، والعناية باللغة العربية؛ فكان ذلك هو القاعدة التي انبثقت منها السياسات والتخطيطات الخاصة باللغة العربية في المملكة العربية السعودية في مجالات الحياة جميعها، ولن يجد الناظر في الأنظمة واللوائح الخاصة باللغة العربية في مرافق الدولة جميعها إلا مكانا عليّا لخدمة العربية وحمايتها؛ مكفولا لها بصفة رسمية.

بل إن الباحث في وضع اللغة العربية في المملكة يعجز عن الإحاطة بجهودها في سبيل العربية وخدمتها وإعلاء شأنها محليا وعربيا وعالميا، والتي من أبرزها الدور المشهود الذي يضطلع به كلٌّ من مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي في خدمة اللغة العربية، ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الذي استهدف ضمن ما استهدفه في خدمة العربية المحافظة على سلامتها ودعمها نطقا وكتابة، وتيسير تعلمها وتعليمها داخل المملكة وخارجها؛ لتواكب المتغيِّرات في جميع مجالات اللغة العربية، ونشرها، ووضع الخطط المناسبة لإحلالها محلَّ غيرها من اللغات في المجالات المختلفة، ومتابعة تنفيذ ذلك، والرفع عما يستلزم، والإسهام في أعمال التعريب والترجمة من اللغة العربية وإليها، إضافة إلى الإسهام في صنع المحتوى العربي تحفيزا ودعما، إلى غير ذلك من الجهود المبذولة في سبيل أمن اللغة العربية وازدهارها.

قد يقول قائل: إذًا، وبعد كل هذا، إلى ماذا تحتاج العربية؟ ألا يكفي ذلك لتحقيق أمنها؟

والجواب أن العربية اليوم تحتاج إلى الأمن على ألسنة أبنائها، الأمن الداخلي في أوطانهم، في أسرهم ومجتمعاتهم، في تعاملاتهم الرسمية وغير الرسمية، تحتاج أن تتوطن ألسنتهم، أن تكون لهم وطنا، أن تكون آمنة مطمئنة بهم وعلى ألسنتهم، أصواتها صحيحة، وصيغها سليمة، تراكيبها فصيحة، عباراتها عربية خالصة، مستعملة متداولة في كل مجالات الحياة.

تحتاج العربية أن يكون أبناؤها آمنين بها، مطمئنين إلى أنهم ليسوا مغلوبين، ولا مغبونين، ولا محرومين من أيّ حق من حقوقهم، ابتداء من التقدير والاحترام والاهتمام وانتهاء إلى قدرتهم على التواصل بها، في وطنهم أولا، وقدرتهم على الحصول على كامل الامتيازات والحقوق التي كفلتها لهم الدولة؛ دون أن يضطروا إلى الحديث بغير العربية ليتمكنوا من تحصيلها؛ فلقد شاع أن من يتكلم العربية الفصحى أو الفصيحة سيسخر منه الآخرون، ولست أدري من الآخرون؟ ومن الذي سمح لهم بالسخرية؟ وكيف تجرأوا عليها؟ ما المعتقدات التي هيأت لهذه السخرية؟ ثم هيأت لخشية المتحدثين بالفصحى من السخرية واطمئنانهم إلى الحديث بغيرها؟ ثم أليس هذا تنمرا؟ نتحدث هنا عن لغة فصيحة سهلة، لا تقعُّر فيها ولا تشدق، ولا إغراق في ألفاظ عربية قديمة لا تتناسب مع الزمان والمكان والحال والمقال، نتحدث هنا عن حديث التعليم والإعلام، حديث الفكر والأدب والثقافة، حديث الدعوة والخطابة، حديث التقنية والاتصال، حديث الحياة، فهل اللغة العربية آمنة فيها؟

تحتاج اللغة العربية إلى الأمن على مستويين: مستوى يتعلق بسلامتها وصحتها على الألسنة، والطلاقة في الحديث بها، دون تردد أو خوف أو قلق من الخطأ أو من عدم القدرة على الاسترسال في الحديث بها، أو عدم القدرة على استقبالها صحيحة وفهمها كما أراد المتكلم، وهذا لا يتأتى إلا بناءً على ذخيرة لغوية مخزونة لدى المتكلم والسامع، ومستوى يتعلق باعتمادها لغة الحديث صافية نقية بلا فواصل أو تفسيرات أجنبية أو عامية، ولاسيما إذا كانت تلك العامية لا تشبهها، عامية منقطعة عن العربية؛ مشوهة بأخطاء الأصوات والصيغ والتراكيب والكلمات.

تحتاج اللغة العربية إلى الأمن في العالمين الواقعي والافتراضي، تمكينا وتوطينا، تحتاج إلى تفعيل أنظمتها وقرارات تمكينها وقوانين حمايتها في الواقعين، وفي المجالات جميعها، تحتاج أن تجري على ألسنة أبنائها وبأقلامهم واثقة غير قلقة صافية نقية عذبة رقراقة، صحيحة أصواتا وصيغا وتراكيب وعبارات ودلالة وتداولا واستعمالا في كل مناحي الحياة.

هذا هو الأمن، هو الحب الواعي المفضي بنا إلى الاتحاد والتكاتف لتحقيق المطالب الثلاثة لحيازة اللغة العربية للدنيا؛ الأمن المحلي والعربي والعالمي، الفردي والجماعي، الشفهي والكتابي، الواقعي والافتراضي، والصحة والسلامة في متنها ومستوياتها جميعها، ومؤازرة الجهود الدؤوبة المخلصة في خدمتها من أجل أن تكون كل الأيام للعربية.

hindali1000@