محمد الأحمدي

الأوسمة الثلاثة على بوابة معمل الكيمياء

الثلاثاء - 07 سبتمبر 2021

Tue - 07 Sep 2021

آخذكم في جولة في محيط جامعة أكسفورد الساعة السادسة مساء يوم الأربعاء الذي لا يبدو مختلفا ولا مميزا أو منغلقا عن محيط المجتمع المدني من حوله إلا بعراقة المباني، وقوة العلم الذي تحتويها تلك المباني المتفرقة، ونظام تشغيل هذه المنظومة. ومن ملامح نظام هذه الجامعة أنها تنتهج نظاما فيدراليا، حيث يسمح لكلياتها الخمس والأربعين بالحكم الذاتي في الإدارة. وخير توضيح لهذا الحكم نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه الجامعة التاريخية الفريدة من نوعها على مستوى جامعات العالم ازدهرت بقرار سياسي حينما أوقف الملك هنري الثاني ابتعاث طلاب اللغة الإنجليزية من الالتحاق بجامعة باريس في عام 1167. وتشير الوثائق المعروضة بمكتبتها المتاحة للزوار بأن الجامعة أسهمت بشكل نشط في الحراك المجتمعي من بداياتها، فأصبحت مركزا للجدل حول النزاعات الدينية والسياسية التي تشيع في المجتمع في القرن الحادي عشر. وقد تمخض هذا الجدل الديني في القرن السادس عشر المسمى بعصر الإصلاح الديني الكاثوليكي والبروتسنتي بالحكم على ثلاثة من أساقفة الكنيسة في كنيسة الجامعة الرسمية بالحرق المعروفين بشهداء أكسفورد: هيو لاتيمر، ونيكولاس ريدلي وتوماس كرانمر في شارع برود استريت الحالي لاتهامهم بالفلسفة أو ما يسمى بالبدعة في الدين.

وبالمجمل فتهمهم مخالفة معتقدات العقيدة الأرثودوكسية السائدة في وقتها. على سبيل المثال نقد نيكولاس ريدلي الذي أصبح أسقف لندن وستمنستر، وقبلها نائبا لمدينة هيرن في مقاطعة كنت البريطانية، بابا الفاتيكان في حينها وذكر بأن لا سلطة له من الله في إنجلترا، ولا تمييز له عن غيره فيها.

هذه الجامعة الصاخبة على مر العصور شهدت في أواخر القرن السابع عشر هروب الطبيب الفيلسوف التجريبي جون لوك صاحب التجريبية الحسية إلى هولندا خوفا من سلطة الأمن البريطاني على غرار أطروحاته الفكرية والفلسفية ورسائله وأطروحاته المتعلقة بالحكم المدني في أوج الصراع بين الملكية والبرلمان. ويبدو أن تاريخ بناء أكسفورد كان بناء فكريا فلسفيا ليس سلميا في كل أحواله.

أتوقف بكم أمام معمل الكيمياء غير العضوية في الجامعة، حيث تميزت بوابته بثلاثة أوسمة زرقاء اللون، سداسية الزوايا. لكل واحد منها قصة مثيرة.

يعود الوسام الأول لتطوير البروفسور ألين هيل Allen Hill وتوني كاس Tony Cass وغراهام ديفيس Graham Davis لجهاز قياس الجلوكوز في الدم للمصابين بالسكري في 1982. ومكثوا حوالي سبع سنوات يحاولون جذب المستثمرين لتحويل هذا الاختراع إلى منتج تسويقي يستفيد منه المرضى على نطاق واسع إلى أن تقدم عام 1989 رائد الأعمال رون زوان زيقار Ron Zwanziger الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة LumiraDx الحالي، بالدعم المالي وتأسيس شركة Medisense التي طرحت جهاز مراقبة الجلوكوز الجديد للبيع في عام 1989 وحققت من خلاله نجاحا كبيرا، مما دفع شركة Abbott Laboratories إلى الاستحواذ عليها في منتصف التسعينيات مقابل ما يزيد عن 800 مليون دولار تقريبا. واليوم لا يخلو مصاب من السكري في كل دول العالم من هذه التقنية حيث قدر في 2020 بأن مبيعات شريط كاشف الجلوكوز تجاوزت 30 مليار شريط منذ طرحه في السوق. وقد أطلقت مكتبة بودليان معرضا في عام 2013 تحت عنوان الاختراعات الطبية العظيمة: 800 سنة من ابتكارات أكسفورد، أتى اختراع الجلوكوز ضمن العشرين ابتكارا العظيمة.

أما قصة الوسام الثاني فإنها من نصيب دورثي كروفوت هودجكين Dorothy Crowfoot Hodgkin المولودة في القاهرة والحاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء نظير تطويرها لتقنية البلورات بالأشعة السينية التي تحدد بنية الجزيئات الحيوية، وجهودها في تركيب المضادات الحيوية، وفيتامين ب 12، والبنسلين، والأنسولين.

وتعود قصة الوسام الثالث إلى أبحاث البروفيسور John Goodenough على بطاريات الليثيوم، حيث اكتشف وزملاؤه في 1980 مادة Cathode التي تساعد على تصنيع بطارية قابلة لإعادة الشحن مما أسهم في تطوير أجهزة الكمبيوتر المحمول والهواتف الذكية ونال عليها جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2019.

لاحظت عند عبوري الشارع بأن سيدة خرجت من معمل الكيمياء الفيزيائية والنظرية ثم اتجهت إلى شجرة على الرصيف المقابل لتجمع مجموعة من الحصى فسألتها سؤالين أجابت عن استفساري حول أهذه تجربة؟ فقالت: بأنها قد تكون هذه النوع.

تعلمت من زيارة جامعة أكسفورد رغم قصرها تفاعلها مع المجتمع، وقيادته في بعض الأحيان، وتجديد الطرح الفكري في عصور الصراع الأوروبي، والانفتاح عليه حتى في إتاحة التأمل في طراز مبانيها المعماري القديم، واليوم تؤثر في مجتمعات العالم بقوة العلم، وتسويق ما يخدم الإنسانية.

alahmadim2010@