زيد الفضيل

أنا وهو وأبوماضي

السبت - 03 يوليو 2021

Sat - 03 Jul 2021

في قصيدته الخالدة «الطين» عبر الشاعر المهجري إيليا أبوماضي عن جانب من وباء التضخم الذي يصيب بعض الحمقى فيتصورون بجهلهم بأنهم مختلفون عن غيرهم، وبأنهم من عالم آخر، وهو إشكال نفسي قبل أن يكون خلقيا، وأزمة متعلقة بكينونة الذات المتعالية قبل أن تشكل للآخر أزمة جراء ما يعيشه من تعامل فظ ولا أخلاقي؛ على أنه في البدء والانتهاء لن يكسب ذلك المتعالي شيئا زائدا، ولن يخسر من وقع عليه التعالي من حجمه شيئا، وكل ما سيحدث سيكون نتوءا واقعا لن يضر في نهاية المطاف سوى صاحبه.

في قصيدته «الطين» كان إيليا شفافا مباشرا واضحا وكأنه مرآة تكشف زيف أولئك المتغطرسين بغباء، مخاطبا الإنسان بهويته التي خلقه الله منها قائلا:

نسي الطين ساعة أنه طين

حقير فصال تيها وعربد

وكسا الخز جسمه فتباهى

وحوى المال كيسه فتمرد

يا أخي لا تمل بوجهك عني

ما أنا فحمة ولا أنت فرقد

أنت لم تصنع الحرير الذي

تلبس واللؤلؤ الذي تتقلد

أنت لا تأكل النضار إذا جعت

ولا تشرب الجمان المنضد

أنت في البردة الموشاة مثلي

في كسائي الرديم تشقى وتسعد

لك في عالم النهار أماني

ورؤى والظلام فوقك ممتد

ولقلبي كما لقلبك أحلام

حسان فإنه غير جلمد

ما أجمل هذا القول وأصدقه! وما أدق تعبيره وتشخيصه، وهي قصيدة طويلة مكتنزة بكثير من المعاني الخالدة، ولعمري لو كان الأمر بيدي لطلبت من كل إنسان أن يقرأها بتدبر، ويعي دلالاتها بفهم، ليدرك أن الدنيا ليست سوى أضغاث أحلام، وأن القوة ليست في التعالي وإنما في إدراك حقيقة النفس، وتدريبها على خدمة الآخرين، وذلك هو الغاية من الخلق، إذ لا تكتمل عبادة الله إلا بذلك، فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة: أحاسنَكم أَخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون، والمُتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قدْ علمنا الثرثارين، والمتشدقين، فما المتفيهِقون؟ قال: المتَكبرونَ.

وجاء في الحديث القدسي: أوحى الله إلى داوود عليه السلام إن العبد ليأتي بالحسنة يوم القيامة، فأحكمه بها في الجنة، قال داوود: يا رب ومن هذا العبد؟ قال: مؤمن يسعى لأخيه المؤمن في حاجته، يحب قضاءها، قضيت على يديه أو لم تقض.

هذه الروح البسيطة لا تكون سوى بالتدريب واختيار النماذج الطيبة التي يتم الاقتداء بها، وحتما فأول تلك النماذج وأطهرها هو نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال مخففا رهبة أعرابي قابله برقة وتواضع: هون عليك فإني لست بملك، وإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة.

إنه التواضع الذي يجب أن نتعلمه وندرب أنفسنا عليه، وهو التواضع الذي عاشه كثير من قادة وعلماء أمتنا عبر الأزمان فكانوا في قمة مجدهم حال تواضعهم، وهو سمة من سمات المؤمن، ومنصة يرتفع بها الإنسان على الدوام، وهو أيضا علامة من علامات تقدم الشعوب ونهضتها، إذ به يتحرر الإنسان من ربقة شيطانه، الذي ما أهلكه وأخرجه من رحمة الله إلا تكبره وعدم تواضعه، حين رفض الاستجابة لأمر الله تأففا وتكبرا؛ وما أجمل تلك الحكاية عن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذي قام ليصلح السراج ذات ليلة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين ألا نكفيك؟ فقال: وما ضرني، قمت وأنا عمر بن عبدالعزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبدالعزيز.

على أن عكس التواضع هو الكبر والعجب بالنفس في غير موضعه، وهو ما حذر الشارع منه في عدد من آيات الذكر الحكيم، حيث قال في محكم كتابه: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} وقال: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}.

أتصور أننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في كل تصرفاتنا، وندرك حجم الأنا في داخلنا دون شطط وتكبر، ونعي قيمة (هو) بعدل وإنصاف، ونؤمن بأننا كغيرنا لا نختلف عن بعضنا سوى بعلو كعبنا في العلم، وسمو أذهاننا بالمعرفة، وبهاء حياتنا بالأخلاق الكريمة، وذلك هو مفتاح قوتنا وديمومتنا على رأس الهرم إن كنا قد بلغناه ونريد البقاء على رأسه.

zash113@