محمد الأحمدي

تحريم اللقاحات في أوروبا

الثلاثاء - 23 مارس 2021

Tue - 23 Mar 2021

ليس العجيب أن تظهر آراء شاذة تفتقر للمنطق أو الدليل أيا كان مرجعه بين الحين والآخر في كافة العلوم الدنيوية أو الدينية. لكن العجب من السخرية من قيم المجتمع الذي ظهرت فيه تلك الآراء، وتمجيد قيم مجتمع آخر ظهرت فيه أسوأ منها في حقبة من الحقب الزمنية.

مجتمعنا ليس مجتمعا ملائكيا، لكنه يتميز بقيم مستندة على أصول ثابتة كفلت بقاء قيمه عبر الأزمنة المتعاقبة، حتى وصلت إلينا اليوم رغم التحولات التي مرت به. وهذه الأصول صالحة لكل زمان ومكان، وصلاحيتها في خدمة الإنسانية، وتقديم مصالح الحياة الاجتماعية للمجتمع.

بمفهوم فيه قسوة نحو قيمنا بدأ السيد المحاور يلوم مجتمعنا، مستدعيا آراء شككت في المذياع والسيارة، والتعليم، والعلاج الطبي وبقية العلوم كالفلك، والكيمياء واتهمتها بالسحر والشعوذة لتقنع الجماهير. وبدأ يستطرد بلغة العلم الذي يجب أن تخضع له القيم الدينية، والاجتماعية، وبقية شؤون الحياة الإنسانية. ومن أصول الحوار أن تترك المحاور ينهي فكرته، ويستكمل حجته، ويظهر للجمهور تصوراته دون تأثير، ومن ثم نقل الحوار للمجتمع الذي يستشهد به كمثال للعلم والتطور التي انطلقت منها تصوراته.

لم أستغرب هذا الهجوم، ولا أراه قصورا في المجتمع الذي حدثت فيه وقتها بقدر رؤيتي بأن لدى المجتمع مرجعية دينية واقعية. أخضعت وحاكمت كل جديد ومستحدث في ضوء خبراتها وفهمها للقواعد والنصوص التي تستند عليها. ووجود الثابت المرجعي للمجتمع أمر إيجابي، وتلعب التصورات التفسيرية المبنية على الخبرات السابقة دورا في إظهار مثل هذه الآراء. والقصور في الخبرات الإنسانية، وعدم إدراك تفاصيل الواقع المشاهد يشكلان الفرق في إصدار الأحكام، وهذا أمر طبيعي في الفهم الإنساني. فالحكم من واقع تصور المحكوم عليه في وقته. علما أن المذهب الحنفي استفاد من التخيل والافتراض الذي أظهر رؤى مختلفة في بعض المسائل، قبل أن تصبح واقعا ملموسا: كفتوى الصلاة في الجو وهكذا.

وفي الحقيقة يهون الأمر عندما يصدر من أفراد باجتهاد فكري نابع من تصوراتهم وخبراتهم الشخصية، لكنه لا يغتفر إن صدر من مؤسسات منظمة تحتوي على كل مصادر العلم، والمعرفة، والاستشارة، والخبرة، وتوفر الدليل، ومن ثم تتجاهل كل هذا لأجل مصالحها السلطوية، ومنافعها الدنيوية.

منظومة قيم أوروبا الذي اتخذها محاوري مثالا ليهاجم منظومة مجتمعي، اعتقدت فيما قبل القرن التاسع عشر أن لقاح الجدري حرام رغم فعاليته، وقضائه على الجدري. وإنه لا يجب إعطاؤه للبشر بحجة دينية واهية، حيث إنه مستخرج من البقر التي تعد أدنى من الجنس البشري، وتجاهلت بأنها تستمتع بالحليب والأجبان البقرية آنذاك.

خذ على سبيل المثال الكيمياء في اليونانية القديمة تعني السحر الأسود، والسر الشيطاني، ونبذوها حتى القرن الثالث عشر، واعتبر علم الهندسة رجسا من عمل الشيطان. وهاجرت كتب علمائها إلى المشرق لتترجم إلى العربية في بغداد، وتنتج ثورة علمية في الفلك والطب، والهندسة، ونحوها. وهذا دعا رونان Renan إلى القول بأن العلم ازدهر في الأقطار الإسلامية رغم بعض الآراء المتشددة نحو العلم.

لا بل منعت أوروبا قبل القرن السابع عشر تدريس علم التشريح، والدورة الدموية، واستخدام التخدير في العمليات الجراحية. وأعدمت حرقا الفيزيائي الإيطالي جوردانو برونو بفتوى دينية اعتُذر عنها مؤخرا ليشيد تمثاله في كامبو دي فيوري. وحكمت على غاليلو، ونيكولاس كوبرنيوكس البولندي بسبب نظرية دوران الأرض، وتسببت في هروب ديكارت إلى هولندا خوفا من المحاسبة. وساء الحال بمؤسسات أوروبا الدينية إلى أن تحاكم الموتى في قبورهم حتى تقتل أفكارهم، وتدمر مؤلفاتهم. فأغلقت المدارس، وحرّمت التعليم على أنصار الكنيسة في 529م بأثينا. وقد وصل الحال إلى الاعتقاد أن هناك خطيئة وذنبا بقراءة أعمال الفيزياء، وعلم الفلك لأرسطو وبطليموس وغيرهم!

هذا جزء من مشهد أوروبا الذي تعيش ثورة العلم دون مظلة دينية تضبط القيم الأخلاقية، وتجمع بين قوة العقل وقوة الدين وهو ما يشهده مجتمعي حاليا. فالدين لا يحارب العلم، ولكنه يضبطه تحت ما يسمى اليوم في الغرب بالأخلاقيات العلمية، فالمنظومة القيمية الدينية والمجتمعية في مجتمعي تعتبر الإنسان مستخلفا في عمارة الأرض، وجزء من عمارتها يتحقق بالعلم.

@alahmadim2010