أحمد الهلالي

الاستبشار بنزيف الدم في قصيدة وطاوي ثلاث!

الثلاثاء - 02 فبراير 2021

Tue - 02 Feb 2021

استوقفني تعبير في بيت من قصيدة (وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل) المنسوبة إلى الشاعر المخضرم الحطيئة، ولا مجال للحديث عن نسبتها هنا في هذه العجالة، فذاك ميدان يستحق نظرا عميقا للغوص في أثناء حيثياته، وهذه القصيدة بما تحمله من وصف دقيق، وصور مدهشة، وأحداث درامية شيقة، قد استقطبت عناية الدارسين ومحبي الشعر، لكن أكثر ما استوقفني فيها هذا البيت:

فيا بشره إذ جرها نحو قومه

ويا بشرهم لما رأوا (كلْمَها يَدْمَى)

قصة القصيدة أن فقيرا بائسا يعيش هو وزوجه العجوز وثلاثة أبناء بدا الهزال على أجسادهم من شدة الجوع والمهانة في شِعب معزول، لا يملك ما يأكل فضلا على أن يضيّف الخُطّار من شدة الفاقة، فاهتم كثيرا حين نزل به أضياف وهو على تلك الحال، ودعا ربه (بحقك لا تحرمهم الليلة اللحما) فلا أعز ولا أفضل من اللحم عند البداة كرامة للضيف، فالزراعة معدومة في بيئتهم القاسية، حتى إن أبناء المضيف لا يعرفون خبز الملة والبُر، فعرض عليه ابنه أن يذبحه ولا يعتذر بالعُدم؛ فيوصم بالبخل، ما يؤكد أصالة جينة الكرم في الدم العربي، فجاد القدر بقطيع ظباء فاصطاد واحدة منها بعد أن شربت، وجاء يجرها إليهم مزهوا بصيده السمين، ولعل توصيتي لكم بقراءتها أكمل أثرا من تلخيصي.

البيت السابق يركز على استجلاء بُعد البِشر، فلا تخفى فرحة الرجل المركبة، فهي فرحة أولى بإكرام ضيفه، وفرحة ثانية بإطعام أهل بيته، والفرحة الكبرى أنه لم يذبح ابنه، وكل هذا ليس غريبا، بل تكمن الغرابة في بشر الأضياف الذي حدده الشاعر بتعبير (لما رأوا كلْمَها يَدْمَى)، فحين رأوا الدم يثعب من مكان الإصابة شعروا بفرحة غامرة، فلماذا غمرهم هذا الشعور لمنظر الدم النازف؟ وما السر وراء ذلك؟

إذا علمنا أن العرب في جزيرتهم كانوا يأكلون كل شيء من شدة الجوع، فإن هذا هو سر تفقد الأضياف لبدن الطريدة؛ ليتأكدوا أنها طازجة وأنها كانت حية معافاة قبل اصطيادها، فكان بشرهم الواضح ينفي تحسبهم أن مضيفهم وجدها ميتة سواء بفعل المرض أو الكبر أو كانت متردية أو نطيحة أو مسبوعة، فثَعَبان الدم وتدفقه أكدا طزاجتها، وأشاعا بهجتهم وبشرهم، والحقيقة المؤكدة أنهم كانوا سيأكلونها أيا كانت فـ (الجوع كافر)، ولو لم تكن العرب وغيرها من أمم الأرض تأكل كل شيء لما نزل قول الله تعالى «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم».

ولعل أحد دوافع كتابة هذه المقالة، تأتي من رغبتي في أن يعلم أبناؤنا أنه إلى عهد قريب في جزيرتنا العربية كان الجوع يضطر أجدادنا إلى كثير من ذلك، فلنحمد الله أن منّ علينا بسوابغ النعم، ولنقتصد ولا نسرف ولا نبذر تقديرا للنعمة ومنعمها في المقام الأول، واحتراما لأولئك الجوعى الذين اضطرتهم الحاجة لأكل كل شيء، وكوتهم الأقدار بهلاك أحبتهم جوعا وهم لا يملكون حولا ولا نجدة، ولنتلمس حوائج الجوعى في زماننا.

ahmad_helali@