فهد عبدالله

لا تعاند التيار بل استفد منه

الاثنين - 28 ديسمبر 2020

Mon - 28 Dec 2020

عندما تحين لي فرصة ومتسع من الوقت لأن أذهب إلى قريتي المحبوبة، قرية الوحشة، إحدى القرى التابعة لمحافظة قلوة ضمن محافظات منطقة الباحة الكريمة، ورغم أن شأنها شأن القرى الأخرى التي غزتها المدنية التي لم تبق ولم تذر، إلا أنها ما زالت تحافظ في بعض ملامحها على مقومات القرية القديمة، فالمزرعة أو ما يعرف بـ (الركيب) لا يزال يحتل في أفئدة أهل القرية المكانة الرمزية في الحفاظ على هوية القرية القديمة، من خلال زراعتها والقيام على رعايتها وحمايتها من الطير، إضافة إلى الحلال (الغنم) الذي يكاد لا يخلو بيت من بيوت أهل القرية في أحد الزوايا من مكان مخصص له.

عندما أذهب إلى هناك كثيرا ما يتكرر علي تأمل ثلاثة مشاهد عظيمة في القرية، تؤكد حكمة الآباء والأجداد عبر القرون، من خلال مبدأ: لا تعاند التيار بل استفد منه.

وهذا ليس في قرية الوحشة فقط، وإنما أيضا مشاهد في جميع القرى التي تتسم بوجود الجبل والوادي والمزرعة، المشهد الأول أماكن البيوت موجودة في منطقة بين الجبل والوادي أو بما يعرف منطقة سفح الجبل، والحكمة من وراء عدم وجود البيوت في الوادي بأن لا تعاند تيار السيول في الوادي الذي بالتأكيد سيغمر جميع الأشياء التي تقف أمامه، والمشهد الثاني تلك الأبنية الجدارية المكونة من الحجارة المتوسطة الحجم، وتعرف بـ (العراق)، التي تحيط بالمزرعة من جميع الجوانب، كي تحفظ ما بداخل المزرعة من أمواج السيول العاتية، المشهد الثالث تلك السواقي والأخاديد التي تلم شتات الأمطار المتجمعة لتدخل إلى ميدان المزرعة، والحكمة منها التحكم في كمية مياه الأمطار التي تدخل للمزرعة وتسد احتياجها من الماء، هذه التراتيب الحكيمة التي تعامل بها ابن القرية منذ القدم مع التحديات البيئية مثل: لا تعاند التيار بل استفد منه، يمكن لها أن تكون من جوامع الحكمة التي تكون عابرة للتحديات الأخرى في كل زمان ومكان.

مثلا، في هذا العصر المعلوماتي المتسم بالتغيير المتسارع، نجد أن التيارات العلمية والتقنية تتضاعف بشكل هائل يوميا، وعدم مواكبة هذا التغيير هو نوع من الخمول الذي سيجعل الإنسان أو المؤسسة أو المجتمع خارج نطاق الزمن والنهضة والحضارة، مثال بسيط في جانب الشركات والمؤسسات التي تقف في وجه تيار التقنية والتحولات الرقمية، بالتأكيد ستكون خارج المنافسة، فضلا عن الشكوك في تحقيقها لأهدافها وانحسار غلة الأرباح لديها، ولربما لو استمرت هكذا لخرجت من الأسواق كليا، والسؤال المعقول: ما المؤسسة التي لم تواكب تيار التغيير التقني وما زالت موجودة على الأرض؟ والأمثلة كثيرة في مثل هذا الجانب والمقال لا يتسع لذكرها.

بعض المؤسسات والشركات التي تتسم بقيادات حكيمة لا تحاول مواكبة التيارات الضاغطة الحالية فحسب، وإنما تشكل لجانا وإدارات مستقلة لتتوقع وتستشرف المستقبل والتيارات التي ستتشكل، لكي تستعد لها وتتواكب معها، قبل أن يأتي ذلك بوصفه نوعا من الريادة الحكيمة في التعامل مع سنة: لا تعاند التيار بل استفد منه.

في الحقيقة أن طبيعة التيارات الجارفة، أيا كان شكلها ولونها، تفرض قوتها وهيبتها على أي مجتمع، ومحاولة الانكفاء أو التجاهل أو المقاومة، إنما قد تكون لحظية في العمر الزمني، ولا تجد من كان معاندا لتيار جارف إلا أخذه معه في الطريق ولو بعد حين، لذلك كان فهم هذه الحقيقة الفيزيائية الاجتماعية السلوكية، من حيث فهم معنى التيار وحقيقته وكيفية الاستفادة منه والتقليل من أثره السلبي إن أمكن، هو العلامة الفارقة التي تدخل في عداد تصرفات الحكمة التي تشابه ما فعله ابن القرية منذ القدم في التعامل مع التحديات البيئية.

@fahdabdullahz