دلال العريفي

غير قابل للتفاوض.. المصداقية والثقة

الأربعاء - 18 نوفمبر 2020

Wed - 18 Nov 2020

اتفقنا - أيها القراء الكرام - في المقال السابق أني لو تحدثت وأكثرت الحديث عن «القيم» فلا لوم علي ولا تثريب. واتفقنا أيضا أن القيم من الأشياء التي يجب ألا تمس ولا تخدش معانيها في المجتمعات وبيئات الأعمال، وأن على القيادة أن تكون حارسا أمينا على منظومة القيم لديها.

وتأتي المصداقية كأكثر القيم قيمة لدى القائد والمجموعة لديه، وبها تتميز المؤسسات والقيادات عن غيرها، فالمصداقية تتطلب النزاهة في القول والعمل، وتقتضي الصدق والوضوح والشفافية في تعاملاتها وسياساتها الإدارية، والبعد التام عن «الكذب التنظيمي» إن صحت التسمية.

وللحديث باختصار عن فلسفة هذا الكذب، فهو صفة للإدارات الفاشلة، تمارسه من خلال مجموعة من الإجراءات الخادعة، التي تتضمن إخفاء النتائج الحقيقية، والتدليس في التقارير الرسمية، والادعاء بتحقيق إنجازات وهمية، قد لا تكون موجودة إلا على هيئة حبر خجول على مجموعة ورق! ويشمل أيضا السعي إلى التميز والوصول للقمة من خلال أعمال غير قانونية، تكون بعيدة كليا عن أخلاقيات القيادة، وعن معاني النزاهة والمصداقية وقيمها.

ومثل هذه الممارسات غير النظامية والاعتياد على هذه الأكاذيب تشجع كثيرا على تفشي الغش والخداع والتضليل في بيئة العمل، وفقدان النزاهة وتلاشي المصداقية. والمصيبة في هذا «التلاشي» أنه المعول الأقوى لهدم أركان الثقة بين العاملين وبين القيادة، حتى يصل الأمر إلى القضاء على الثقة في المؤسسة بشكل كلي، لأن مصداقية الإدارة فيها ركن أساسي لبناء الثقة داخلها.

وتلك الثقة - أيها الكرام - تعد إحدى أهم القيم الجوهرية في أي علاقة وداخل أي منظمة، فالثقة تشكل مصدرا من مصادر القوة للمؤسسة وسببا مباشرا لنجاحها وتميز العلاقات فيها، وعنها يقول ستيفن كوفي الابن: إن الثقة ليست ثوبا يمكن ارتداؤه أو خلعه حسب الموقف أو الثقافة، فكل قائد بحاجة إلى استيعاب المفاهيم الأصيلة للثقة. وحين سئل جاك ويلش عن معنى الثقة لم يقدم تعريفا محددا لها، بل فضل التعبير عنها بقوله «إنك تدركها حين تشعر بها». وهذا تصريح صريح بأن الثقة منبعها شعور الإنسان وإدراكه.

ولتوضيح طبيعة مفهوم الثقة داخل بيئة العمل، أقول: هي ببساطة شعور الفرد وإدراكه لما يلقاه من دعم ورعاية وإشباع من جانب المؤسسة، وكذلك إدراك الرؤساء لقيام الموظفين بمسؤولياتهم وواجباتهم، مع الشعور التام بالاطمئنان وحسن الظن بأن كل السياسات والإجراءات والقرارات تحمي حقوق الفرد وتعمل لصالحه. وحينما ‏يسود جوٌ من الثقة في بيئة العمل، فإن الأفراد يستطيعون الإفصاح عن أفكارهم ومشاعرهم، وتزداد فرص النمو والتطوير.

وعلى الجانب الآخر فإن المنظمات التي تفتقر إلى وجود مستوى جيد من الثقة التنظيمية أو المؤسسية، تظهر فيها قلة التعاون والالتزام، ويزداد فيها الافتقار إلى التواصل الفعال والإبداع، والأسوأ من هذا حضور مشاعر الريبة والتشكيك بين الجميع بأكثر من صورة. والأكيد أن الفرق بين علاقة مملوءة بالثقة وأخرى شحيحة الثقة هو فرق هائل.

أعلم يقينا ومن تجارب كثيرة أن الثقة ثقيلة جدا، وأنها تخرج أفضل ما في الناس حين يدركون أنهم موضع ثقة للآخرين، لأنها تشعرهم بالتحفيز الذاتي فيحرصون على أن يكونوا بمستوى توقعات الآخرين بل أفضل، وعلى الرغم من أن هناك عددا قليلا من البشر قد يسيئون استخدام هذه الثقة بالفعل، فإن الغالبية العظمى من الناس لا يقومون بذلك. وهذه بالطبع ليست دعوة للمجازفة بالثقة، فللثقة قواعد وأصول وأهل، وهذا موضوع طويل آخر لا تستوعبه أسطر مقال.

@darifi_