طارق فريد زيدان

طعنة حروب الأديان.. وصفعة حروب الأمم

الثلاثاء - 27 أكتوبر 2020

Tue - 27 Oct 2020

«أعمق الجروح على صدر التاريخ هي الحروب الدينية»، هكذا يقارب الصحافي اللبناني جهاد الزين التاريخ. لعله نسي، وهو ابن لبنان «قطعة السماء»، على حد وصف الشاعر يونس الابن، أن «الحروب الهجينة» تحفر جروحا أعمق، ولبلاد الأرز كل النصيب من حروب الآخرين على أرضها.

تعدّدت أسباب الحروب وعناوينها، إلا أن آثارها تغور عميقة في شرايين المجتمع، في دواخل كل بيت وكل عائلة.

يمكن اعتبار الحروب الدينية أنها صراع داخل البيت، بالمقابل، فإن الحروب العالمية هي صراع على البيت نفسه، الحروب العالمية صراع يتشارك فيه أهل الحارة جميعا بعد انهيار النظام العام للحي، ومن باب المقارنة، تتفوق الحروب العالمية على الحروب الدينية لناحية الفوضى السياسية والأمنية والاقتصادية، أما الدينية، فتتفوق بتناقضاتها التراثية والاجتماعية وحتى الفردية.

الأولى تشكّل صفعة على وجه الإنسانية، والثانية طعنة في ضمير الإنسان (الفرد) والإنسانية (المجموع). الأولى سياسة والثانية تسييس.

بين ما هو سياسي وما هو تسييس، اختلطت المبادئ في العالم وتعطلت لغة الحوار بين الدول مع مطلع القرن الحادي والعشرين، والأهم غياب مبادئ المنظومة الدولية التي تأسست عليها فكرة النظام الدولي، المبادئ التي خرجت من رحم حرب عالمية/أوروبية بعنوان ديني عاثت دمارا على مدى أكثر من ثلاثين عاما، هي الحرب التي تعتبر نقطة الانطلاق لأي حديث في السياسة والعلاقات الدولية في العصر الحديث.

في العقل السياسي الغربي، تعتبر حرب الثلاثين عاما حجر الأساس، خيضت هذه الحرب على أراضي وسط أوروبا بين العامين 1618م و1648م، شارك فيها أبناء القارة الواحدة المنقسمين يومها بين مسيحيين كاثوليك ومسيحيين بروتستانت، بين إمبراطورية رومانيا ومملكة هابسبورغ، بدأت بالدين قناعا وانتهت بالسياسة مُحصلة: البحث عن دور في مرحلة ما بعد تلك الحرب الدامية.

من الآثار الاجتماعية لتلك الحرب أن انخفض عدد الرجال إلى النصف في أراضي ألمانيا، ما أدى إلى تشريع تعدد الزوجات، غير أن الأثر السياسي الكبير يبقى في معاهدة وستفاليا عام 1648م التي أدخلت مبدأين جديدين إلى العمل السياسي:

مبدأ سيادة الدول، ومبدأ منع التدخل الخارجي الذي أحدث تحوّلا ثوريا في العقل السياسي الغربي.

غير أن التنافس التقليدي على قارة أوروبا ما لبث أن خرج مرة أخرى حين أفرزت القارة الأوروبية إرهاصات للحربين العالميتين الأولى والثانية، ليأخذ الغرب موقع الصدارة لناحية الطعنة والصفعة في التاريخ الإنساني.

هاتان الحربان مزقتا قارة أوروبا ومعها العالم إلى معسكرين، حربان أهدرتا نحو 100 مليون روح (قتيل) ومئات ملايين الجرحى، ودمرت دولا وعواصم وقارة بأكملها، جرحٌ عميق تحكم بحياة ومصائر شعوب العالم قاطبة، وكان لنا نصيب منها في عالمنا العربي، فقد جسّد سقوط الدولة العثمانية انتقال منطقتنا من مرحلة إلى أخرى، هنا تلقت السلطة الحاكمة في الأناضول صفعة العمر بعد أن نجحت محاولات القوتين العظميين فرنسا وبريطانيا رسم حدودا جديدة للنظام الإقليمي، تراجع معه دور إستانبول.

في المقابل، تقدم دور العرب وحراكهم تجاه الاستقلال، تتويجا لنضال سياسي خاضته الشعوب وقيادات تاريخية: في الجزيرة العربية عاصفة صحراء استقلالية قادها الملك عبدالعزيز آل سعود، وفي جبل لبنان موجة ثلجية قادها بطريرك الموارنة الياس الحويك الأب الروحي للبنان الكبير، وفي الحجاز ثورة عربية خضراء بقيادة الشريف الحسين بن علي، أما في مصر فكانت ثورة سعد زغلول باشا.

خلق هذا الحراك العربي، بتوقيته ونتائجه، سمعة خاطئة في الوعي الجماعي التركي، وسرعان ما تحولت نزعة راحت تنمو وتكبر مع سياسة حزب الاتحاد والترقي العثماني، فراح ينظر إلى العرب وحصولهم على حق تقرير المصير بوصفه طعنة في صدر الخلافة العثمانية، بينما كانت الطعنة الحقيقية في ما شهده أجدادنا من حملات تهجير وتنكيل قسري عرفت بـ «السفر برلك».

باستثناء الحدث التاريخي المتمثل بقيام دولة الاحتلال على أرض فلسطين في عام 1948، فإن الحدث الزلزالي الآخر الذي طيّر عقال المنطقة سياسيا في الألفية الحديثة هو الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003.

وقتذاك، تغيّرت المنطقة جذريا بعد أن دخلت في الفراغ، سقطت كل الحدود، الأخلاقية والأمنية والدينية، دارت حروب هجينة بالوكالة على كامل رقعة الأرض العربية، اختلط فيها الأمريكي بالإيراني، والتركي بالأوروبي، والعربي بالإيراني والتركي. لقد حضرت كل جيوش العالم إلى منطقتنا، كل فصائل «الجهاد» أتتنا من كل حدب وصوب لتفجر أحقادها في منطقتنا. انكشاف كبير ما بعده انكشاف يعيد إلى الأذهان لحظة سقوط الدولة العثمانية.

إنه الجرح العربي ينزف منذ 100عام. وظلم ذوي القربى يبقى أشد مضاضة على الشعوب من طعنات وصفعات الحروب الدينية.