زيد الفضيل

من بلاط صاحبة الجلالة

السبت - 24 أكتوبر 2020

Sat - 24 Oct 2020

انتشر في الآونة الأخيرة بين جمهرة الكتاب ومن تابعهم، فكرة أن يقوم أحدهم بجمع مقالاته وإعادة نشرها في كتاب ليتسنى له الانتقال من خانة الكتاب إلى ركن المؤلفين. ولم لا؟ ودور الطباعة تقدم خدماتها، ومعارض الكتاب قائمة على أصولها. وأصدقكم القول: ذلك حق لكل أحد، بل ويكون مقصرا من اشتهر بنشر بعض ملامح فكره الأصيل، ولغته العذبة في مقالات سيارة، ثم لا يعمد إلى حفظها وإتاحتها للمتذوقين لغة وفكرا، عبر إعادة نشرها في سفر خالد، وبوحدة موضوعية مرتجاة. ومن أولئك عديد من الكتاب البارزين سابقا ولاحقا، ولعل أحدهم من اقتبست عنوان كتابه الجميل.

إنه معالي الأستاذ إياد بن أمين مدني، ذلك الكاتب والمثقف والمسؤول الذي استوقفني كثيرا وأنا أطالع سفره الأنيق «من بلاط صاحبة الجلالة» وهو مجموع من مقالاته القديمة أعاد نشرها ضمن خمسة عناوين رئيسة.

والحق أقول إني بقدر استمتاعي بقراءة مقالات رزينة مضى عليها نصف قرن من الزمان، كان انغماسي في خبايا تلك الحقبة التي كُتب فيها المقال، وطريقه الذي سلكه في أروقة الصحيفة ودهاليزها للنشر، ثم تركت لخيالي العنان ليتصور ذلك القارئ وهو يتدبر ثنايا كل مقال ويتفحص ألفاظه، ليقوم بمناقشته في خلوته اليومية مع رفاقه، والبعض منهم قد يكون على صلة بكاتبه فيثير بعض خباياه حال اجتماعه بالكاتب تحت سقف أحد الصالونات الثقافية التي كانت تعج بها مدينة جدة، علاوة على غيرها من المدن الرئيسة في وطننا بوجه عام.

على أني أخذت أيضا وبتلقائية محضة أقارن بين ما يُدونه كتاب الرأي اليوم على صفحات صاحبة الجلالة، وما دونه بالأمس رواد الكلمة والثقافة، لأجد نفسي عاجزا عن إكمال المقارنة بين ما يُكتب اليوم من مقالات لا يستوفي بعضها أسس الصياغة الواجب الالتزام بها، ناهيك عن متانة المضمون، وجودة الأسلوب، وقوة الكلمة، ووضوح الدلالة، وما كتب بالأمس من مقالات نعجز عن وصف رونقها، ودقة تعبيراتها، ناهيك عن قوة سبكها اللغوي والدلالي، والأمر حتما في الحالتين على إطلاقه، وإلا فالساحة اليوم لا تخلو من كاتب يشار إليه بالبنان لجزالة ألفاظه وبيان معانيه، كما لم تخل الساحة قديما من كاتب فاقد للأهلية، على أن الفرق بين الحالتين كامن في أن الساحة قديما كانت قادرة على تصفية نفسها بنفسها، فلا يبقى إلا من يستحق، أما اليوم فلم يعد يأبه أحد لما ينشر، وبالتالي فقدت الساحة قدرتها على تنقية أجوائها، فكان أن اختلط الحابل بالنابل، حتى بلغنا ما نحن فيه من جهل وتجاهل لما ينشر للأسف الشديد.

أعود إلى كاتبنا وكتابه لأشير إلى ما دونه في مقاله الموسوم بـ «الانفصام» المنشور بجريدة المدينة عام 1970م حول موضوع الكتابة ومهمة الكاتب والرسالة المتوجبة عليه، وذلك في إطار حديثه عن الكاتب الأمريكي جيمس بولدن حيث قال «الموضوع ليس من تقرأ ومن لا تقرأ، وليس الدعوة إلى الالتزام بالسجع كأسلوب مثالي في الكتابة، أو ضرورة الإمساك بريشة نعام بدلا من القلم (الباركر) لتحبير المقالات؛ بل هو نوعية الكتابة والهدف منها، وعلاقتها وارتباطها بالقارئ. إن مهمة الكاتب لا تنحصر في كون اعتباره مجرد عدسة لاقطة أو جهاز استقبال وإرسال، ولكن في نفس الوقت يجب أن يوجه الكاتب عدسته لإبراز صور يتعرف عليها من يراها، ويربط بينها وبين واقعه الحياتي والمعيشي والثقافي. هناك قارئ يجب أن نصل إليه، وأن نؤثر فيه، وأن ندفعه إلى التفكير وإعادة النظر وربما مزيد من الحركة والديناميكية، وهذا لن يتأتى باجترار مواضيع مكررة معادة محفوظة .. بل عن طريق النزول إلى الشارع ومعايشة الوطن جغرافيا واجتماعيا، ثم التعبير عن هذا كله بحساسية، وأسلوب، وطريقة، ومضمون، تعبر عن قراءات الكاتب وخلفيته الثقافية».

إنها بعض مسؤوليات الكاتب إزاء نفسه وقرائه، ذلك الكاتب الذي انطلق من إيمانه العميق بقيمة الفكرة، فحرص على أن يمتلأ بها قبل أن يسردها لغيره كتابة، ولذلك جاءت مقالاته جزلة قوية صالحة لكل وقت وحين، لم يكن همه الشهرة، بل مسكين ذلك الذي يُشار إليه بالبنان، فحركاته منظورة، وسرعان ما توزن كلماته المبثوثة بميزان النقد، وويلٌ له ثم ويلٌ له إن أخطأ بخطء ينم عن عدم إدراك ومعرفة، وكل ذلك منطلق من تلك المقولة الشهيرة «من ألف فقد استُهدف»، وهو ما انعكس إيجابا على الساحة.

والسؤال الذي أتوجه به إلى نفسي أولا ولزملائي كتاب الرأي هو: لو كُنا في زمانهم أيكون لنا حضور بينهم؟ كل عام ونحن بخير في ذكرى سيرة المصطفى سيد الكلمة وملك الإعجاز.

zash113@