زيد الفضيل

آه يا نغم!

السبت - 17 أكتوبر 2020

Sat - 17 Oct 2020

في أمسية باذخة بجمالها، وفي أحضان جمعية الثقافة والفنون بجدة، كان لي ولجمهرة من محبي الطرب الأصيل موعد لا ينسى مع الموسيقي الدكتور أيمن تيسير الذي انساب حديثا رقراقا حول تطور الموسيقى العربية، خاصة في القرن الماضي، وتماهت أرواحنا مع صوته الشجي وهو يترنم ببعض مقطوعات الموسيقار محمد عبدالوهاب الخالدة كلمة ولحنا، وشيء من أغاني عبدالحليم حافظ التي تتسلل برقة إلى داخلك فلا تملك إلا أن تستكين لروعة جملتها الموسيقية ومتعة لحنها.

حقا كانت ليلة بهيجة،استعادت فيها أرواحنا بعضا من بريقها الذي هو آخذ في الانطفاء، ولا سيما مع توالي هذا الضجيج الذي يسمونه فنا عبر مختلف الإذاعات المبثوثة بيننا، وليت أن من يجيزه، ويروج له، ويبثه، يدرك تأثيره السلبي على أرواحنا قبل أسماعنا، فيرحمنا من هذا العذاب قليلا، ويسعى إلى إنقاذ ذائقتهم وحماية وجدانهم من كل تلك التشوهات السمعية والذوقية التي يتعرضون لها، دون وعي منهم بمخاطرها الجسيمة عليهم مستقبلا.

قد يقول قائل إن ما يقدم اليوم ويذاع من (شكشكة) تسمى طربا هو المرغوب به بين شبابنا وفقا لرتم الحياة السريعة المعاصرة، فلم تعد أسماعهم تميل لما نسميه بالطرب الأصيل، بل إنها باتت نافرة من تلك الأغاني الطربية، على أني أتوقف متعجبا من هذا الادعاء الذي يفتقر للدقة والمصداقية، ذلك أن النفس لا يمكن أن تنفر من مكامن الجمال أولا، ثم لو كان صحيحا ما يدعونه، فلماذا يحرص المشاركون في كل مسابقات الغناء العربي، حتى التي خصصت لفئة الأطفال، على أن يقدموا في تجاربهم الصوتية المعلنة وأمام لجنة التقييم الفنية مقاطع غنائية من ذلك الطرب الأصيل، فيشدو أحدهم بوصلة من أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، وموسيقار الأغنية العربية محمد عبدالوهاب، ويغرد ببعض ما صدح به العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، علاوة على ذلك الصوت الأوبيرالي أسمهان، وأغاني أخيها فريد الأطرش، ثم وردة الجزائرية وفائزة أحمد ونجاة الصغيرة وميادة الحناوي، وصولا إلى فيروز وماجدة الرومي، وغيرهم عديد من رموز الغناء والطرب الأصيل؟

على أني ومن تجربة خاصة أؤكد ميل شبابنا (ذكورا وإناثا) وتذوقهم لتلك الجملة الموسيقية السليمة المتناغمة صوتا ولحنا وكلمة، حيث حرصت على مدار خمس سنوات أن أقدم برنامجي الإذاعي «مدارات ثقافية» بوصلة غنائية لأم كلثوم، وكنت أتصور أنها لن تجذب الجيل الجديد، لكن الواقع كان مختلفا، حيث وردني كم كبير من التعليق الإيجابي من أولئك الشباب الذين تسنى لهم الاستماع لحلقة من حلقات البرنامج على إذاعة جدة، بل أخذ بعضهم يتتبع عرضه على اليوتيوب لاستعادة ما فاته من حديث ذكرته حول الشاعر بيرم التونسي وأحمد رامي وغيرهما، أو الملحنين الكبار من أمثال محمد القصبجي ورياض السنباطي والشيخ زكريا أحمد وغيرهم.

هذان المثلان كفيلان لأن أؤمن بأن الذائقة السليمة لا يمكن محوها مهما وُضع فوقها من كريمات ملونة سرعان ما تذوب مع ظهور الشمس، فالشمس لا تحجب بغربال كما يقال، والذوق السليم والجمال فطرة في التكوين البشري، والسؤال: متى يدرك القائمون على إذاعاتنا ذلك فيرحمونا من بث ما ينتج من ضجيج، ويسهموا في تنقية أسماع شبابنا من غبش يقال له موسيقى؟ مع إيماني بوجود قدر من الأغاني الشبابية الجديدة التي تستحق الثناء.

وفي هذا السياق، كم يؤسفني أن تنزلق إذاعة جدة وهي إذاعة حكومية رائدة، أسسها رواد الكلمة والنغم، في هذا المنزلق الشائك، ودون أن يكون لذلك أي جدوى، فكعكة الاستحواذ عل نسب المستمعين الشباب بعرض ما يستهويهم وفق ما يقال، قد ذهبت للإذاعات الخاصة التي سبقت في الميدان منذ عقد ونصف العقد من الزمان، وبالتالي فوصول «إذاعة جدة» يأتي متأخرا، وفي الوقت الذي لم يعد فيه مستمع على الطاولة أساسا، تكون قد فقدت مستمعها، ولم تستقطب له بديلا.

أخيرا ليت من يدرك أن الإعلام مسؤولية قبل أن يكون ترفيها، وأن الجملة الموسيقية الأصيلة غذاء روحي ترتقي بها النفس لمواطن الجمال الرباني، قبل أن تكون صخبا ترتج معه أبداننا، وما أحوجنا اليوم لأن نستعيد لجان إجازة الاستماع التي كان معمولا بها في النصف الأول من القرن العشرين، رأفة بحالنا، وإنقاذا لأجيالنا.

وآه يا نغم!

zash113@