ياسر عمر سندي

النفسية.. في صحتكم

الأربعاء - 14 أكتوبر 2020

Wed - 14 Oct 2020

العاشر من أكتوبر من كل عام اليوم العالمي للصحة النفسية، وكان أول احتفال بهذا اليوم في عام 1992، بناء على مبادرة من الاتحاد العالمي للصحة النفسية، وهي منظمة دولية للصحة النفسية مع أعضاء وشركاء لأكثر من 150 دولة. وبلا شك فإن هذا العام استثنائي في شكله ومضمونه، ومن نواح عدة مختلفة ومتنوعة أيضا، من خلال ما طرأ عليه من أحداث أثرت على مجرياته.

أول هذه المؤثرات التي مست المجتمعات بأفرادها سلبا هو كوفيد 19 فيروس كورونا المستجد، الذي انعكس من خلال تبعاته على الصحة العامة الجسدية والصحة النفسية، وأثر تأثيرا بالغا من حيث الانغلاق المكاني والنفسي، حيث عطل هذا الوباء وأعاق المحرك الرئيس والمولد الأساسي للحياة في نظري وهو «العامل النفسي» الذي بموجبه يعمل على عدة جوانب داعمة للشخص، إذا ما استقامت دواخله واستقرت فرائصه واعتدلت سلوكياته.

وتبدو لي مناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية 2020 توقيتا مناسبا للتعمق بشكل أكبر والتحدث بشكل مفصل عن النفسية، لما لها من أولوية قصوى تمكن صاحبها وترتقي به شخصيا وأسريا وعمليا ومجتمعيا إلى الصفوف الأولى والمتقدمة في التعامل، وأرى أن الدواخل الخفية، التي استودعها الله عند صاحبها تستحق الوصول إلى المرحلة الإمبراطورية في الاستقرار والهدوء، فلا هو يسمح لذاته بأن يتعدى على نفسيته ويعبث بها، وكذلك لا يسمح للآخرين بالتجاوز داخل حدوده ليعبثوا بنفسيته أيضا وتخريبها.

فمحاولة الاستعلاء بالنفس أو الانحدار بها إلى القاع مسألة معادلة تبادلية أيضا في الوقت نفسه، تستند إلى الاحترام والالتزام، فمن ينظر إليها - أي للنفس - بعين التقدير ستتبادل معه الوتيرة نفسها، لتصل معه إلى درجة التصالح النفسي وهو الاطمئنان، وهذا هو القصد والمبتغى الرباني لحماية هذه النفس من براثن التخبط وعدم الاتزان.

في هذه الفترة العصيبة لكورونا، التي برز فيها انفعال الخوف واضطراب الحذر الذي أدى بالتالي إلى ظهور حالات اكتئاب متفاوتة، وبحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية المنشورة، فإن 300 مليون شخص في العالم مصابون بالاكتئاب، وفي كل عام يموت نحو 800 ألف شخص جراء الانتحار الذي يمثل ثاني سبب رئيس للوفيات في الفئة العمرية (15-29) عاما.

والنفس البشرية تضطرب وتختل في أنظمتها الثلاثة الحاكمة والمتحكمة في السلوكيات البشرية الظاهرية: اللفظية والفعلية والإيمائية، وكذلك ردات فعلها الإرادية واللاإرادية نتيجة الضغط النفسي، التي تكلم عنها رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد، حيث أشار للنفس الأولى بـ «الهوية الأساسية» للشخصية، وهي مركز الغرائز العشوائية وتعمل في اللاشعور، أي ما قبل الفعل. والنفس الثانية سماها «الأنا»، وهي تعمل وفق مبدأ الواقع والإدراك والتفكير والحكمة والشعور الفعلي، وظيفتها إعمال التوازن المرن والاستقرار لدوافع اللذات، ومبادئ الأخلاقيات. أما النفس الثالثة فسماها «الأنا الأعلى» وهي الأخلاقيات العليا والقيم السامية والضمير، وهي مثالية جدا وليست واقعية.

وقبل فرويد بألف وأربعمئة عام، تحدث القرآن الكريم عن هذه الأنفس الثلاث بحسب أدوارها وأنماطها المختلفة، وهي النفس «الأمارة بالسوء» وما يقابلها من الهوية الأساسية لمركز الشهوات والغرائز، والنفس «اللوامة» بما يقابلها من الأنا الأعلى للأخلاقيات والآداب الحميدة بما تقوم به من دور رادع ومثبط لهيجان النفس المتمردة المتطلعة للإشباع الشهواني، حتى تصل إلى النفس «المطمئنة»، وما يقابلها من الأنا، وهي درجة الارتياح في هدأة النفس واطمئنانها وأمنها وسكينتها الذاتية في جميع ما يترجم من سلوكيات القول والتصرف ولغة الجسد.

هذا من الجانب النفسي، أما من الناحية التوعوية لتحقيق التكامل المجتمعي، فإن اختزال يوم واحد للاحتفال بالصحة النفسية، مثل الشعارات والحملات أو الدورات، مثلما يحدث من كل عام في هذه الأيام، أعده جانبا إيجابيا من المبادرين والمهتمين، جهات اعتبارية وحكومات ومنظمات، ولكن النفس البشرية تحتاج إلى الاستشعار المستدام، والتنوير الملائم، بحسب البيئات العالمية المختلفة، فالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عامل فاعل ومؤثر، والنفسية تتأرجح مثلما هي الأوضاع في عدم انضباطها، وكلما حرص الجميع عليها وأعطاها قدرها من الأهمية والاحتواء والسمو والارتقاء أصبحت سلاحا ضامنا للتصدي أمام مداخيل الأمراض والأعراض التي تهز استقرارها.

النفسية أمانة في أعناقكم، فاجعلوها علامة فارقة في صحتكم.

@Yos123Omar