زيد الفضيل

الغيبوبة الكبرى

السبت - 29 أغسطس 2020

Sat - 29 Aug 2020

حتى نفهم حقيقة ما نعيشه من غيبوبة تفاقمت على مر السنين لدرجة وصلت إلى حد الشعور بالاستلاب الكلي الذي وللأسف تغيرت معه الموازين، ليصبح الحق باطلا، والمنطق أعوج، دعونا نستعيد بعض ذاكرتنا لنشاهد بتأمل جانبا من تسلسل الحدث التاريخي، فلعلنا ندرك مدى تأثيره على تكوين واقعنا المعاصر.

تبدأ حكايتنا مع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي حيث بواكير عصر النهضة العربية في مصر من بعد خروج الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، تلك الحملة التي أدخلت الطباعة، وشيدت المجمع العلمي، وأنشأت بواكير الحكم والإدارة المحلية فيما يعرف بالمجلس البلدي، ثم غادرت ليبدأ معها حكم محمد علي باشا الذي دشن عهد النهضة بشكل رسمي عبر إرساله البعثات الطلابية إلى أوروبا، وإنشائه لكلية الألسن، وإجرائه عديدا من التحديثات اللافتة، وصولا إلى إرادته الاستقلال عن جسم الدولة العثمانية المتهالك، لكن إرادة الغرب الإنجليزي لم تسمح له ببناء معالم قوته الجديدة في الشرق، لا سيما وأنها كانت قد بدأت في توسيع دائرة نفوذها الاستعماري صوب الهند والشرق عموما، لذلك فقد حملت على عاتقها إلجام هذا الحصان الجامح بالقوة العسكرية، وعملت على تحجيمه بل وإعادة تموضعه في الإطار المختار له عبر معاهدة لندن عام 1840م التي وقعها بالإضافة إلى الدولة العثمانية، كل من مملكة بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا، وتم استثناء فرنسا من المشاركة في هذا الاتفاق بسبب حالة الصراع المحتدمة بين الدولتين في حينه، حيث كان لبريطانيا الدور الأكبر في إخراج الحملة الفرنسية من مصر بعد هزيمة قوات نابليون في معركة أبوقير.

في تلك المرحلة بدأت فرنسا وبريطانيا باستقطاع أراضي الدولة العثمانية العربية على البحر المتوسط، فاحتلت فرنسا الجزائر عام 1830م ثم احتلت تونس عام 1852م، لتتحفز بريطانيا لوضع يدها على مصر عام 1882م، وتتلوها إيطاليا مع مطلع القرن العشرين باحتلال ليبيا عام 1911م؛ وكانت بريطانيا قد شرعت في توسيع دائرة سيطرتها على مناطق عديدة من المشرق العربي، حيث احتلت عدن عام 1839م، وبسطت نفوذها على منطقة الخليج بساحليه العربي والفارسي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهكذا عاش العرب دوامة من الاحتلال والتقطيع الذي مارسه البريطانيون والفرنسيون مطلع القرن العشرين عبر ما عرف باتفاقية سايكس بيكو التي مزقت الخريطة العربية إلى دول قومية متعددة، بوصاية اقتصادية وفكرية غربية، زارعين في عمقنا الوجداني كيانا سرطانيا وهو الكيان الصهيوني الذي ولدت فكرته إثر تقرير كامبل بنرمان ونتج عنه وعد بلفور الشهير عام 1917م.

على أنهم لم يكتفوا بذلك بل أوجدوا لهذا الكيان الجديد بيئة جغرافية حاضنة عبر مسمى «الشرق الأوسط»، وهو المصطلح الذي تم استحداثه مع مطلع القرن العشرين، وصار اسما رسميا لمنطقة جغرافية تمتد من مصر غربا إلى إيران شرقا، ومن تركيا شمالا إلى سواحل بحر العرب جنوبا، وهو ما يسمح بتمييع هويات المشرق العربي القائمة على البعد القومي أو الديني، مما يتيح لهم زراعة الكيان الإسرائيلي داخله.

أشير إلى أن الهوية اليهودية كانت ولم تزل مغلقة على نفسها، ويصعب اندماجها كونيا، سواء عاشوا بين العرب مسلمهم ومسيحيهم، أو عاشوا بين مختلف القوميات الأوروبية، وهو ما يثبته التاريخ، وبالتالي فقد كان يستحيل إنشاء كيان يهودي ضمن الجغرافيا العربية، فتم اختراع مصطلح «الشرق الأوسط» ليمثل هوية جغرافية للدولة اليهودية، وهو ما وصلنا إليه اليوم، وبتنا نشهده.

ما أريد الخلوص إليه هو أننا لم نملك إرادتنا وقرارنا منذ مطلع القرن التاسع عشر، وما أنشأناه من مؤسسات عربية سياسية وعلى رأسها جامعة الدول العربية الموقرة كان بترتيب غيرنا، أولئك الذين نقلونا من مفهوم الدولة الدينية إلى الدولة القومية مطلع القرن العشرين، ثم أدخلونا في سياقات الدولة القطرية، ومع استيفاء هدفهم مما سبق أخرجونا إلى مفهوم النظام العالمي الجديد بمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يستهدف تجزيئ المجزأ، لتكون الدولة اليهودية الأكبر والأقوى ضمن منظومة الهوية الجغرافية الجديدة؛ فهل آن الأوان لنستفيق؟

zash113@