فهد عبدالله

التتويج المر

الاحد - 23 أغسطس 2020

Sun - 23 Aug 2020

عندما ينشغل الإنسان بالانتقال والترقي في تصنيفات العلم والثقافة والأخلاق ويكون دائم الاتصال بهذا الميدان الحضاري سيكون في حالة حراك مستمرة تلفها المعاني الحقيقية للحضارة والتمدن والنهضة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي أو المجتمعي عندما يشتغل أكثر أفراده بمثل هذه الميادين. وهو الخيط العريض والذي يرى بكل سهولة بالعين المجردة في تمايز الأفراد والمجتمعات بعضها عن بعض.

وهذه البيئة الاجتماعية المنشغلة في هذا الميدان الحضاري ستكون هي حجر الأساس الذي سيمكن من البناء الشاهق للإنسان وللأوطان والانطلاق منها في ميادين الابتكار والتجديد وتوسيع العلوم والركض على الطريق الصحيح الذي يتلاءم مع أجمل طبائع الإنسان في الارتفاع والنمو وتسخير ما في الكون بما يخدم الإنسان ويعمر الأرض.

في الحقيقة الذي دعاني لأن أكتب في هذا الجانب هو ذلك الملحظ الذي ينتاب الكثير من الأوساط الشبابية، الذي يحصر العلم والدراسة والترقي المعرفي في إطار المدرسة والجامعة وتنتهي رحلة الطلب العلمية بالحصول على الشهادة العلمية ذات الختم الأزرق، وكذلك ارتباط أن الرزق والوظائف وزيادة المال مرتبطة فقط بالشهادة، مما جعل حالة التعطل المعرفي تكون بدايتها بانتهاء المراحل الدراسية، وتكون الشهادة هي التتويج المر الذي يعلن بداية مرحلة التكلس المعرفي.

روح السيادة الحضارية ومواصفات التقدم والنهضة لا يمكن لها الحضور والتوهج وطلب المعرفة مشروط فقط بتلك الشهادة أو الوظيفة، نعم إن أكبر الملحات التي تطرق فطرة الإنسان هي طلب الرزق وقد تخبو عنده أهمية المعرفة المتواصلة، وهذا قد يتطلب جهودا متراكمة من الجهات التي تصنع القرار، سواء في مجال التعليم والتربية والثقافة في سطوع هذه الحقيقة في قوالب صناعة القرار ومن ثم البحث عن إجابة دقيقة وصحيحة قدر الإمكان لسؤال: كيف يمكن لنا في أروقتنا التعليمية والوظيفية شحذ الفكر والسلوك تجاه هذا النمط الإنساني الذي سيكون العتبة غير المباشرة لمقومات النهضة في جميع المجالات على الصعيد الفردي والوطني؟

كمثال بسيط، وأرجو ألا يخرج القارئ من حياض الفكرة الرئيسية، هل البيئة التعليمية تكرس مفهوما مثل التعلم الذاتي وأن الفرد في عالم القرية الصغيرة يستطيع أن يتعلم بنفسه دون التعليم التلقيني التقليدي؟ هل المنهجيات ومهارات اكتساب المعارف هي الشاغل الرئيسي للعقول أم المعلومات المعلبة الجاهزة المسيطرة في النسق التعليمي؟ هل البيئات الوظيفية تكرس مفهوم الاستمرارية المعرفية أم فقط جل الاهتمام بها يقع حول مؤشرات الأداء والإنتاج، رغم أن التواصل المعرفي للفرد كفيل بإحداث المفاجآت في هذه المؤشرات؟ ومثل هذه المحاور التي تقلب معادلة التعلم والمعرفة بين متعلم وغير متعلم وبين متعلم في حالة تواصل معرفي وآخر أقل من ذلك.

ديمومة التعلم والمعرفة تكرس مفهوم صناعة الفرص الأحداث وليس انتظارها، بل كفيلة بأن تجعل من المشاكل المعقدة مثل البطالة مشاكل قابلة للحل وبشكل ميسر. انظر إلى عشرات الأمثلة التي نراها هنا وهناك عن ذلك الإنسان الذي لم ينخرط في وظيفة ما لأي سبب كان واتجه لفكرة العمل الحر (freelance)، أو بما يعرف بالشخص المستقل الذي يعمل على استثماره الخاص من خلال المعارف والمهارات التي حصل عليها وما زال يتزود بها.

وهذا السلوك الفردي واتساعه وتكاثره على المستوى الاجتماعي كفيل بمحاصرة شعور العيش على هامش الحياة، والذي قد يكون من الأسباب الأولية لزيادة معدلات الجريمة، وبوابة الفراغ التي تفضي للانحرافات والخضوع لمسارات التحلل الذاتي.