زيد الفضيل

لبنان وفخ التأسيس

السبت - 15 أغسطس 2020

Sat - 15 Aug 2020

حين خرج الشارع اللبناني صارخا بشعاره الشهير «كلن يعني كلن» تصورت بأن الخلاص قد حان، وأن لبنان الأرض والإنسان قد بات قاب قوسين أو أدنى من التحرر من ربقة الصراعات الطائفية والمناطقية والوجاهية والإقليمية التي تدثرت جميعها بقميص السياسة تمويها وتسويقا لمشاريعها ومصالحها المختلفة، حتى باتت السياسة كلمة لا معنى ولا قيمة لها في القاموس اللبناني، وصار إسفافا القول بأن المجتمع اللبناني مجتمع مسيس كما يحلو لمثقفيه ترديد ذلك.

والسؤال: هل حقا يعي اللبنانيون أبسط قواعد السياسة؟ وهل السياسة كامنة في هذا التصارع المقيت الذي يعيش فيه الشعب اللبناني عقودا متوالية؟ وهل السياسة أيضا محصورة في ذلك التحذلق اللفظي الذي يتشدق به كثير من أبناء لبنان، ودون أن يخرجهم تحذلقهم إلى طريق ينقذون به أنفسهم وأهليهم؟

في التعريف الاصطلاحي للسياسة أشار فقهاء الدستور إلى أنها تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وهي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة، ووفق رؤية الاشتراكيين هي دراسة العلاقات بين الطبقات، وبحسب المدرسة الواقعية هي فن الممكن، وهي في محصلة كل ذلك علاقة منضبطة بعقد واضح المعالم بين حاكم ومحكوم.

أمام هذه المفاهيم النظرية المتفق عليها دوليا، والتي جرى العمل بها عالميا، هل وعى المجتمع السياسي والطبقات المتصارعة في لبنان معناها ومقتضاها الحقيقي؟ وهل هو مدرك لدلالتها بشكل عملي على أرض الواقع؟

أشير ومن باب الإنصاف إلى أن مشكلة لبنان الطائفية قد تخلقت في جيناتها منذ اللحظات الأولى لتكوينها كدولة مستقلة عن الجسد السوري الكبير، حيث قام المستعمر الفرنسي بسلخ لبنان عن سوريا الكبرى وهو ما أيده مسيحيو لبنان الذين طالبوا بتأسيس دولة مستقلة بحماية فرنسية، في الوقت الذي عارض مسلمو لبنان ذلك، لرفضهم الانتداب الفرنسي أولا، ولرغبتهم في الانضمام إلى دولة سوريا الكبرى برئاسة الشريف فيصل بن الحسين في حينه.

وكان أن جرت المفاوضات بين الحركة الوطنية السورية وممثليها في لبنان من الزعماء السياسيين المسلمين، والحكومة الفرنسية التي جعلت من اعتراف الحركة الوطنية بكيان لبنان الكبير شرطا لموافقتها على توقيع معاهدة تعترف فيه باستقلال دولتي سوريا ولبنان، فقبل ممثلو الحركة الوطنية ذلك، مما أحدث تصدعا في صفوف السياسيين المسلمين الوحدويين في لبنان، الذين سرعان ما بلوروا بقيادة الرئيس رياض الصلح مع المسيحيين بقيادة الرئيس بشارة الخوري، مبادئ الميثاق الوطني اللبناني، القائم على معادلة أن يتنازل مسيحيو لبنان عن مطلب حماية فرنسا لهم، في مقابل تنازل المسلمين عن طلب الانضمام إلى سوريا الكبرى، وبذلك جرى تأسيس كيان لبنان الكبير المستقل عن الجسد السوري.

وبهذه الصيغة أيضا كان قدر لبنان أن ينشأ وفقا لمعادلة طائفية قوامها مسيحيون ومسلمون، ثم ما لبث كل طرف أن تشظى إلى طوائف متعددة كالسنة، والشيعة، والدروز في جانب المسلمين، وفي الجانب المسيحي تعددت المدارس الكنسية لتشمل: الكنيسة المارونية التي تمثل الطائفة الأكبر بين المسيحيين، علاوة على الأرثوذكسية الشرقية، وكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، والكنيسة الأرمنية الرسولية، والبروتستانت، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وكنيسة المشرق الآشورية، ناهيك عما استجد من تيارات سياسية علمانية يمينية أو يسارية.

على أن كل ذلك لم يقف حائلا أمام الآباء المؤسسين للبنان ليتحدوا بمختلف أديانهم ومذاهبهم وتياراتهم ويقرروا مواجهة المفوض السامي الفرنسي، ويعلنوا من قرية بشامون بجبل لبنان استقلالهم عام 1943م، وحتما فما كان ذلك ليكون لولا حريتهم وامتلاكهم ناصية قرارهم، وتخلصهم من الخوف الطائفي المقيت، وإيمانهم بعروبتهم وأن الدين لله والوطن للجميع.

تلك هي روح أولئك الأحرار الوطنيين، وهي التي صنعت كيانا ودولة بالرغم من مصاعب التأسيس، وجعلت من لبنان شعلة مضيئة بالإبداع والجمال والثقافة والمعرفة الأصيلة، ثم حين انطفأت تلك الشعلة مخلفة رمادها الهش، تطاير اللبنانيون بين هذا وذاك، واشتعلت نار الحرب بينهم، وتلاشت تلك النسمات العطرة أمام رائحة الموت، وهكذا هو دأبهم حتى اليوم للأسف، لا ترى فيهم أي ملمح من ملامح الفطنة السياسية التي عادة ما تظهر في أصعب المواقف الوطنية، فمع كارثة لبنان بتفجير مرفئه، أخذت بعض القوى السياسية في تأليب الشارع وفق أجندة سياسية ظاهرا، طائفية باطنا، وفي حينه أدركت ألا مصداقية لمقولة «كلن يعني كلن»، واستحضرت مقولة الزعيم المصري سعد زغلول «ما فيش فايدة يا صفية».

zash113@