محمد الأحمدي

الرق الرقمي في القرن الحديث

الثلاثاء - 30 يونيو 2020

Tue - 30 Jun 2020

لم يعد مفهوم الرق الذي يشير إلى امتلاك إنسان إنسانا آخر كملكية شخصية يحق له المتاجرة به واستعماله فيما يراه السيد؛ أمرا مشاهدا للبشرية في العصر الحالي. فمنذ اتفاقية الأمم المتحدة التي حاربت الاتجار بالبشر في الثاني من ديسمبر 1942، والتي تحولت ليوم عالمي دولي لإلغاء هذا النمط من المفاهيم الإنسانية في 1995.

وعند استعراض الأحداث التي نال هذا اليوم النصيب الوافر منها طيلة الحقبة الماضية فإن القارئ يجد نفسه أمام قائمة طويلة من الاتفاقيات والمعاهدات والأحداث التي وثقها التاريخ. وسأكتفي بذكر حدث واحد لكم شكل تحولا جذريا في محيطنا العربي، وهو تأسيس اتحاد دولة الإمارات الشقيقة في 2 ديسمبر 1971.

ماتت حقبة الاستعباد البشري الجسدي، وتلاشت حروب المتاجرة بجسد الإنسان، واختفت موانئ استقبال العبيد حتى من مسمياتها وأماكنها لطمس حقبة التمييز العنصري. فعلى سبيل المثال مدينة بريستول التي تقع على نهر أفون بلغت ذروة تجارتها للاستيراد البشري بين 1730 و1745م، وقد لا يعي هذا المصطلح الفتى الناشئ الذي لم يقرأ تاريخ التصور البشري في القرون السالفة، الآن سقط تمثال التاجر إدوارد كولستون في الماء، فكان الجزاء من جنس العمل. وما هي اليوم إلا ميناء تتكدس فيه البضائع، فلا يكاد مسافر يمر بالطريق العام الرابط بينها وبين جنوب غرب إنجلترا إلا ويلمح دون عناء المركبات المتراصة المستوردة من الشرق والغرب، والرافعات التي تملأ السماء وكأنها أطياف تتلاحق فتشكل بألوانها المختلفة أقواس التجارة في أفق الميناء البحري.

مات جانب الاسترقاق ونشأ جانب لم ينأ بنفسه بعيدا عنه، فقد تقاسم معه الاحتفال في اليوم نفسه، فانتشر بين البشر حتى أصبح جزءا من حياتهم، يساعدهم في تحسن حياتهم، ويسهل عليهم مناشطهم اليومية. لقد نقلهم من فأس الفلاح ومحراث الخشب وقلم الريش إلى تقنية يكثر ما يخفى من عملياتها مما يرى منها. فنقلت البشرية من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة ومن ثم العصر التقني الرقمي الحديث، مُشكلة ثورة شاسعة في الانتقال التطوري بين الشعوب فتفوق من امتلك زمامها، وتأخر بالركب من لم يتعلمها.

ليس المقصود أيها القارئ إخبارك بمميزات التقنية في حياتك فهي بمعصمك تقيس نبض قلبك فتنبهك بنشاط جسدك لتبقى بصحة جيدة.

ولكن تحول هذا المظهر ليعود بزمن الرقابة والمتابعة من المكان العالي الذي يقف فيه السيد ليقيم إنجاز خدمة إلى شريحة أصغر من حبة الأرز، تزرع تحت الجلد لتتبع الموظفين وعمال المناجم والمصانع والمؤسسات الإنتاجية وربما المكتبية، لترسل بيانات حول كفاءتهم ونشاطهم وأماكن تواجدهم. وقد واجهتها المنظمات المتعددة بالحيرة بين القبول أو الرفض الذي أتى من باب المبادئ الأخلاقية وانتهاك الخصوصية الفردية.

إذن أين تجارة الرّق الحديث؟

يقال إن النفط القادم هو امتلاك البيانات. نعم، حينما يصلك تذكير عبر بريدك الرقمي بشراء منتج استهلاكي بعد أسبوعين من شرائه من الموقع الرقمي، توقعا بأن كميته نفدت، فهذا يعني أن معلوماتك وبياناتك قد أصبحت مملوكة لغيرك، وعلى الأقل اهتماماتك التي تعد المصدر الثري للمسوقين الرقميين.

أحيطك علما بأني استقبلت الآن بريدا الكترونيا يقدم لي عرضا لحجز منزل ريفي قد استأجرته في مثل هذا الوقت من العام الماضي لتزامن ذلك مع إجازة نصف الفصل الدراسي الصيفي بإنجلترا.

إذن هنيئا لك أيها المدير في اكتشاف من يدعي أنه مريض ومتغيب عن العمل، أو من يدعي أنه موجود وهو غير موجود، ونحوها من الأعذار! سترسل التقنية تقريرا بصحتك لمؤسستك كل صباح حينما تستيقظ، وبخط سيرك والوقت الذي تستغرقه، وسترسل تقريرا متزامنا كلما ارتفع طرفك عن مهمتك. فلا وقت يا عزيزي لصحن الفول وفنجان الشاي الذي يأخذ ساعتين من وقت عملك كل صباح.

الخلاصة أن من يمتلك قواعد البيانات أصبح يؤثر في القرار العالمي، فالواقع المعاش اليوم أن قواعد البيانات التي تمتلك أكبر شريحة من البشر تشكل الصوت الأقوى والمسموع في اتخاذ القرارات. وما التنافس بين الشركات العالمية إلا على الحصول على بيانات الفرد والتعرف على اهتماماته، ومن ثم تقديم الخدمات المتوافقة مع تلك الاهتمامات له عند اتخاذ مبدأ حسن الظن، أو بيعها ونقلها لجهات أخرى تسخرها في أهدافها.

@alahmadim2010