ناصر بن عبدالكريم

صلوا في بيوتكم.. وإن فتحت المساجد!

الاثنين - 08 يونيو 2020

Mon - 08 Jun 2020

«ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما».

كل مسلم - وإن كان مقصرا - تهوي نفسه للمساجد، ولا سيما بعد إغلاق الأبواب ومنع الجمع والجماعات، فالإحساس بأنك محروم من شيء يجعلك تتعلق به أكثر وأكثر، فكيف إن كانت بيوت الله التي أذن سبحانه أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟ هنا يجتمع العامل النفسي والروحي والشرعي.

وقد قامت وزارة الصحة مشكورة ومعها الوزارات الأخرى بمجهود عظيم في احترازات صحية جنبت البلاد والعباد ويلات الوباء وشراسته، ولا سيما في مقتبل ظهوره، حيث لم يكن يعلم عنه كثيرون ولم تعرف بعد طريقة التعامل معه، وترتب على هذا آلام اقتصادية كبرى تحملتها الحكومات الإسلامية مشكورة.

وبعد 3 أشهر من الإغلاق ومنع التجول بدأ السماح التدريجي في جميع دول العالم تقريبا بالرجوع إلى الحياة الطبيعية بعد شلل شبه تام ضرب جميع قطاعات الدولة.

إلا أن الشأن هنا عن فتح دور العبادة، وإعادة إقامة الجمع والجماعات في المساجد، حيث سيرجع ملايين المصلين إلى إقامة الصلاة والاجتماع لها، وهذا الأمر مع فرحنا به إلا أنه مقلق جدا مع الوضع الحالي، وذلك لعدة اعتبارات:

أولا: أن «العلة» التي من أجلها منع الفقهاء من الجمع والجماعات ما زالت قائمة، بل زادت وتضاعفت، فالأعداد في ازدياد مستمر مع الإغلاق والمنع فكيف بعد فتحه؟ لذا - وبناء على العلة نفسها - فإن الصلاة «جماعة» في البيوت أفضل من جماعة في المساجد.

والتفضيل هنا ليس لصلاة «الفرد» على «جماعة» المسجد، بل تفضيل «جماعة» البيت على «جماعة» المسجد.

وهذه «الأفضلية» مبنية على أن أجر الجماعة (27 درجة) متحقق في أي مكان أقيمت فيه، لكنها في البيت تمنع وقوع ضرر - أثبته احتمال وقوعه أهل الاختصاص - بخلاف الجماعة في المساجد، ولولا هذا الضرر لما طلبت وزارة الصحة (جهة معتمدة شرعا) من كبار السن عدم شهود الصلاة.

وفتوى الفقهاء بمنع الجمع والجماعات لم تكن مبنية على فتح المساجد وإغلاقها فحسب – وإن كان وجها معتبرا - بل كانت ناظرة إلى إحدى الضرورات الخمس في الإسلام، وهي حفظ النفس ودفع الضرر.

ثم إن الحكم «بالأفضلية» من باب التلطف في العبارة، وإلا عند وجود وفيات وأمراض خطيرة فإن الحكم يدور بين الحرمة والكراهة.

ثانيا: إن الشارع الحكيم قد منع حالات من شهود الجماعات في المساجد هي أقل شأنا من هذا الحال الذي نمر به، كمنعه صلى الله عليه وسلم آكلي البصل والثوم من حضور المسجد، ومن المعلوم أن من كان هذا حاله لا يتأذى به إلا من كان بجواره فقط، ثم هذا التأذي نوع عدم الارتياح والانزعاج فحسب لا يشمل أذى صحيا محققا.

وبناء على «قياس الأولى» يصبح الحكم بمنع الجمع والجماعات في حال الأوبئة - سريعة الانتشار - هو أولى من مجرد رائحة طعام مزعجة.

وهذه «الأولوية» جاءت من جهة أن التأذي الحاصل بالفيروس لجميع أهل المسجد وليس لمن جاوره فحسب، بل يتعدى إلى بيوت أهل المسجد عند رجوع المصلين إليها، ومن جهة خطورة هذا الفيروس على جميع الأجهزة الحيوية في الجسم مع عدم وجود علاج أو لقاح حالي يخفف من المعاناة أو يقلل الوفيات.

ثالثا: وهو أخطرها، هذا الوباء لا تظهر أعراضه على نحو 85% من المصابين به، أي إن جمهور الحاملين للفيروس لا تظهر عليهم حرارة يمكن رصدها ولا كحة أو عطاس يمكن اكتشافه، بل يحملون الفيروس وينقلونه لغيرهم دون أن يشعر بهم أحد (قنابل صامتة متحركة).

رابعا: لو منع كبار السن من المساجد وأصحاب الأمراض المزمنة من حضور الجماعات، واقتصر الأمر على الشباب فحسب، فإن هؤلاء الشباب سينقلونه إلى كبار السن حين عودتهم إليهم، ونقع في نهاية المطاف مما فررنا منه.

خامسا: الاحتياطات الصحية مع وجوب شهود الجمع والجماعات أمر يتعذر الالتزام به، ولا سيما مع اختلاف طبقات المجتمع واختلاف شخصياتهم واختلاف الأحياء ما بين قديمة شعبية وحديثة منظمة، وعمل رقيب على كل هؤلاء ضرب من الخيال، والتزام الجميع بالاحتياطات مستحيل، بدليل أنا شاهدنا من لا يلتزم وقت العقوبات المالية الرادعة فكيف برفعها؟

سادسا: لا يعني هذا أننا ندعو إلى تعطيل الجمع والجماعات بعد فتح المساجد، بل تقام الجماعات ويشهدها إمام المسجد والمؤذن والقائمون على شؤونه، وكذا الشباب الذين لا يعانون من أمراض مزمنة شرط عدم سكناهم مع مرضى أو كبار سن مع الالتزام المشدد باحتياطات السلامة، ويشهدها أيضا من أصيبوا بالداء ثم تماثلوا للشفاء واكتسبوا مناعة ضده، ويصبح حكمها الحالي «فرض كفاية» تكيفا مع الظروف الراهنة مؤقتا.

سابعا: قد يعترض البعض على الأسواق، فيقول: لم أجزتم فتحها ومنعتم المساجد، فيقال: لسنا مسؤولين عنها أولا، وثانيا: الأسواق ليس فيها رخص ترحم العباد، فلو لم تذهب لشراء طعامك فلن يضع أحدهم اللقمة في فيك، وليس كل أحد يستطيع دفع مبلغ لتطبيقات التوصيل المنزلي فيضطر للمخاطرة والخروج للتسوق، بخلاف العبادة المبنية على (فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب)، وثالثا: الأسواق لا يذهب إليها إلا أصحاب الحاجة لشراء غرض معين ثم العودة منه، فلن يذهب الشخص يوميا للسوق 5 مرات فالمال محدود، وذلك بخلاف المساجد التي يتم فيها الاجتماع بشكل دوري، بالإضافة إلى أنها مكان مغلق، وعند انتهاء الصفوف سيتداخل بين الفراغات (المطلوبة صحيا) من لم يجد مكانا وسيلتقي الأصدقاء ببعضهم ويسألون عن أحوالهم.. إلخ.

ويبقى السؤال: إلى متى نبقى على هذه الحال؟

ويجاب: بأن الصبر عبادة يؤجر عليها الإنسان كما يؤجر على وضوئه وخطواته للمسجد تماما، بل وأكثر حين يمنع ضرره عن الناس، وذلك للنفع المتعدي.

والانتظار لن يكون إلى حين صدور لقاح - قد يطول إلى سنة وأكثر، بل أقله الانتظار إلى حين الانتهاء من التجارب العالمية على 4 بروتوكولات علاجية لاكتشاف البروتوكول الأفضل والأنجح لعلاج المرضى، وهذا قريب إن شاء الله.

والخلاصة: صلوا جماعة في بيوتكم (مؤقتا)، ولكم أربعة أجور: أجر الجماعة 27 درجة.

وأجر منع ضرر وإحياء نفس (فكأنما أحيا الناس جميعا)،وأجر النية الصالحة وإن لم تذهبوا (إنما الأعمال بالنيات)، وأجر محبة الله، كما في الخبر الصحيح (إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته)، وبالله التوفيق.