فاطمة جعفر آل هليل

إنسان المستقبل «اصطناعي»

الاثنين - 08 يونيو 2020

Mon - 08 Jun 2020

عند خروجك إلى هذا العالم قد تظن أنك ولدت كاملا دون نقص، فتعيش حياتك دون أن تدرك بأن إمكانية جسدك محدودة وقدراته كذلك، جسدك معرض لفقدان كل هذه الإمكانات لمرض أو حادث أو أي شيء آخر -حماكم الله، فيرى الإنسان نفسه بين ليلة وضحاها عاجزا عن المشي أو النظر أو السمع، فيخسر بذلك علما عظيما كانت توصله له هذه الحاسة التي فقدها، لكن الله عز وجل عندما خلق الإنسان بجسد ذي إمكانات محدودة وقدرة معينة جعل فيه العقل والإرادة التي تمنعه من الاستسلام لمحدودية القدرات والإمكانات ليقف متحديا الصعوبات، وهذا التحدي مستمر من قدم العصر الحجري إلى اليوم، حيث يستمر الكائن البشري في محاولات عديدة يكسر فيها جمود جسمه البيولوجي، ويضيف له العديد من الإمكانات ويعوض النقائص فيه.

يعود تاريخ الأطراف الاصطناعية إلى ما يقارب 1500سنة قبل الميلاد، حيث عرف المصريون القدماء باستخدام الألياف والخشب في صناعة بعض الأطراف الصناعية من قبيل الأصابع والأقدام لأهداف علاجية أو تجميلية. وأول ساق كاملة صناعية يعود تاريخ صناعتها لنحو 300 سنة قبل الميلاد، حيث اكتشفت في إيطاليا عام 1858 م، وكانت عبارة عن كتلة من الحديد والبرونز.

لعلكم تتساءلون: من أين أتت فكرة الأطراف الاصطناعية لأول مرة؟ يعود أصل الفكرة إلى المحاربين القدامى الذين كانوا عرضة لخسارة كثير من أعضائهم بسبب ضربات السيوف وطعنات الرماح، فكانوا يستبدلون الذراع المبتورة بذراع معدنية صلبة تكون مثل الدرع ليحمي الفارس نفسه بها فقط لا غير، أي إنه يستخدم هذه الذراع أثناء الحرب فحسب، ولعل جميعنا يرسم في ذهنه صورة القبطان ذي العين المعصوبة بعصابة سوداء وساق خشبية يتمشى بها.

وتطورت فكرة الأطراف الاصطناعية مع مرور الزمان، حيث أقدم الطبيب العسكري أمبرواز باريه (Ambroise Paré) على تطوير أطراف اصطناعية يمكن تثبيتها مكان العضو المبتور وتساعد على الحركة باستخدام لوحة تحكم.

أقدم مجموعة من الأطباء أيضا على تطوير هذه الأطراف محاولين خلق اتصال حقيقي بين الطرف الاصطناعي والجسم، ولا زال تطوير هذه الأطراف حتى اليوم عملا شاغلا لكثير من العلماء، ووصلنا في الآونة الأخيرة لما يسمى الأطراف الاصطناعية الذكية، حيث طور جهاز بتقنية الذكاء الاصطناعية (AI) يقوم بعملية تحليل للأنسجة الموجودة في مكان العضو المبتور، ثم طباعة أنسجة عصبية مشابهة لها، وربطها بالأطراف الاصطناعية الحديثة، مما زاد من فهم العضو الاصطناعي للرسائل العصبية التي تأتي إليه، فأصبح من يعاني من فقدان ذراعه يقوم بأعمال كانت مستحيلة سابقا، كفتح الباب وحمل الكوب والشرب منه أيضا، دون مساعدة أحد.

لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه البشر الذين يعانون من مشاكل فقدان عضو من الأعضاء هي التكلفة العالية للأطراف الاصطناعية، لكن في المستقبل القريب سيكون باستطاعتهم اقتناؤها بسهولة وتكلفة معقولة، حيث جرب عديد من العلماء حول العالم صناعة الأطراف الاصطناعية بعد تحليل السيالات العصبية الموجودة في موضع العضو المفقود باستخدام تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، التي ستكون متوفرة بين أيدينا في المستقبل القريب، واستنتجوا أن الأطراف الاصطناعية المصممة بهذه الطريقة من أكثر الأطراف مرونة وانسجاما مع حركة الجسم والتفاعل مع البيئة الخارجية بشكل طبيعي.

لم بقتصر الأمر على تصنيع أطراف اصطناعية فحسب، بل صنعت أعضاء أخرى تعوض الإنسان فقدانه لحواس جسمه من قبيل قوقعة السمع التي اخترعت في 1979، ويستفيد منها أكثر من 300 ألف إنسان حول العالم، وتعمل عن طريق تحفيز الأعصاب السمعية بالكهرباء وتطورت هذه القوقعة حتى أصبحت شيئا مشابها للحاسوب الصغير الذي يحتوي على ميكرفون يمكنه استقبال الصوت وتحويله لإشارات صوتيه تحول إلى عصب السمع ويوصلها للدماغ فيدرك ما سمعه.

كذلك لمن فقد البصر فالتقنية الحديثة لم تعجز عن إعادة النظر إليهم حتى لو لم يبصروا من قبل، حيث ابتكر العلماء عينا اصطناعية شبيهة بالنظارة تحتوي على كاميرا صغيرة متصلة بجهاز حاسوب صغير مرتبط برقاقة متناهية الصغر مزروعة قرب شبكة العين، فتستقبل الكاميرا الصورة وتنقلها للحاسوب الذي بدوره ينقلها إلى الرقاقة التي توصل الصورة إلى الخلايا العصبية في الدماغ، وعلى الرغم من كون هذه النظارات لا تزال في مراحلها الأولى إلا أنها ستمكن فاقدي البصر من تمييز الأشياء حولهم تماما كما لو كنت تسير مغمض العينين في غرفتك التي تعرف كل زاوية فيها.

أطراف وآذان وعيون اصطناعية، ليس هذا فحسب، بل إن التقنية الحديثة تمكنت من ابتكار قلب اصطناعي، فما عاد المريض محتاجا لانتظار أحد ممن تتناسب صفاته البيولوجية معه حتى يموت ويأخذ قلبه، بل صار من الممكن تركيب قلب اصطناعي يسمى سمكارديا SymCardia يمكن المريض من الخروج من المستشفى والرجوع للبيت لكنه حتى اليوم قلب مؤقت ينتظر من يحمله عملية التبرع بالقلب، لكن العلماء يسعون إلى أن يكون هذا القلب الالكتروني قلبا دائما لا يحتاج المريض بعد تركيبه إلى تبرع بالقلب، والعلماء أيضا يعملون على إنتاج بانكرياس اصطناعي يخدم مرضى السكري عبر قياس نسبة السكري في الدم عبر خوارزميات معينة، وإن نجحوا بابتكاره سيكون من أعظم القفزات العلمية المنقذة لكثير من البشر.

في المستقبل القريب سنستطيع تخطي جميع أنواع الإعاقات المختلفة باستخدام التقنيات الحديثة، ولا سيما تقنيات الذكاء الاصطناعي، ليستطيع الجميع التمتع بكل أوجه حياتهم، والسماح لهم بممارسة أعمالهم وهواياتهم المختلفة، من الركض إلى كرة السلة والسباحة. المستقبل فعلا يبدو مشرقا، وليس علينا إلا العمل بجد للوصول إليه.

DayTechnique@