عبدالله علي بانخر

الإنفاق الإعلاني العربي في 2019م قراءة متأنية وبكائية العسل المسكوب (1-2)

الأربعاء - 20 مايو 2020

Wed - 20 May 2020

أعلنت شركة إبسوس العربية مشكورة مؤخرا عن إجمالي الإنفاق الإعلاني العربي للعام المنصرم 2019. وقد اعتمد التقرير على قائمة الأرقام المرصودة، وفقا لقوائم أسعار بيع الإعلانات المعلن، والمفترض أن يتم البيع وفقا لها (المساحات الإعلانية المرصودة X أسعار هذه المساحات وفقا للأسعار)، وكذلك قائمة تقديرية وفقا لتقدير إبسوس العربية لنسب الخصم الممنوحة على هذه الأسعار (الأقرب إلى الواقع الفعلي المستلم لدى الوسائل الإعلامية والإعلانية).

وقبل الدخول في تفاصيل أرقام هذا التقرير المهم، لا بد من عدة وقفات مهمة قد نوجزها في جزأين، ويمثل هذا المقال الجزء الأول منهما.

وبادئ ذي بدء، تعد شركة إبسوس العربية الذراع الإقليمي لشركة إبسوس العالمية، ولكن كأي تمثيل عربي يتم بتصرف أو حرية نسبية لمراعاة خصوصية المنطقة، خاصة في غياب ضرائب على المداخيل والإيرادات في أغلب دول الخليج، وضعف ضبطها بدقة ربما في الدول العربية الأخرى.

نشأت إبسوس الأم في فرنسا عام 1976 وتحولت لشركة عامة عام 1988م، وقد عقدت شراكة تحالفية مع شركة نيلسون البريطانية، إلا أنهما انفصلتا بعد فترة من الزمن. وتعد شركة إبسوس العالمية من أكبر 3 شركات عالمية في مجال البحوث والدراسات المتخصصة في وسائل الإعلام تحديدا. أما في المنطقة العربية، فقد سبقت شركة إبسوس العربية عدة شركات، من أهمها شركة بارك (مركز عبر الدول العربية للبحوث والاستشارات) المنافس الرئيس، وربما الوحيد في المنطقة لشركة إبسوس العربية.

وقد أسست شركة بارك في 1976م في بيروت ثم انتقلت أيضا إلى دبي والسعودية بعد ذلك، إلا أن بارك تركزت جهودها في البداية مع المؤسسات الصحفية في المنطقة العربية، وكذلك التجمعات المهنية المتخصصة لصناعة الإعلان في الخارج والداخل مع مطلع الثمانينات من القرن الماضي.

ومع مطالع التسعينات من ذلك القرن تنافست كل من بارك وتاريخها الصحافي السابق مع شركة إبسوس العربية على الوسائل الإعلامية العربية، خاصة مع ظهور الفضائيات الخاصة. وتعد شركة إبسوس العربية إحدى كبريات الشركات عاملة في هذا المجال في المنطقة العربية، إن لم تكن أكبرها نفوذا، خاصة في المجال الفضائي التليفزيوني.

وعلى الرغم من أهمية المعلومات الخاصة بالرصد الإعلاني التي أصدرتها إبسوس العربية مؤخرا في سوق الوسائل الإعلامية والإعلانية العربية، إلا أنه - وللأسف الشديد - لا توجد دراسة موحدة من هذه النوعية أو على الأقل معتمدة رسميا، وأقصد بالاعتماد هنا إما من أطراف الصناعة جميعا أو من يمثلهم كما يحدث في جميع أنحاء العالم. كما لا توجد أيضا دراسة مدققة تدقيقا محاسبيا من طرف ثالث معتمد غير ذي صلة أو منفعة بهذه الأرقام، حتى يمكن الأخذ بها بموضوعية شديدة.

وتبقى قضية توحيد دراسات الوسائل الإعلامية والإعلانية أو حتى اعتماد الجيد منها الأمل المنشود في المنطقة صعودا وهبوطا منذ أكثر من أربعة عقود حتى يومنا هذا. بالرغم من كل ما تقدم وبالعودة إلى التقرير أو المنشور لحجم الإنفاق الإعلاني العربي عن 2019 والصادر مؤخرا من شركة إبسوس العربية، ودون التقليل من أهميته لعدم وجود بدائل أخرى. علما أنه مجرد وجود مثل هذا التقرير أفضل بكثير من مواجهة العدم أو التحرك في ظلمة حالكة لكل أطراف الصناعة. ولعل هذا التقرير يعطي على الأقل بعض مؤشرات أو إجماليات تقديرية للوضع الحادث في السوق الإعلان العام الماضي.

وقد ميزت إبسوس العربية تقريرها هذه المرة - وللمرة الأولى بالنسبة لها، حيث لم تكتف فقط بنشر الإجماليات الخاصة برصد الإنفاق الإعلاني في الوسائل الإعلانية، وفقا لقوائم الأسعار الإعلانية المعلنة (إجمالي المساحات الإعلانية المرصودة X أسعار تلك المساحات)، ولكنها قدمت أيضا تقديرا فعليا لحجم هذا الإنفاق المتحقق لتلك الوسائل.

ويمثل هذا التقدير مقاربة لما تعتقده إبسوس العربية لما قد صرف فعليا كدخل إعلاني لتلك الوسائل الإعلامية، وذلك بالطبع بعد تقدير إجمالي الخصومات والعمولات وأي حوافز أخرى ربما قد حصل عليها المعلن أو الوكالة الإعلانية أو لكليهما معا في أغلب الأحيان.

والرقم الصادم الأساسي في هذا التقرير - وغير المستغرب بالطبع - لا يكمن في الفارق الكبير بين الإجمالي المرصود فعليا وفقا لقوائم الأسعار المعلنة، والذي رصدته إبسوس العربية بنحو 22 مليار دولار أمريكي، والرقم التقديري الفعلي الذي قدرته أيضا إبسوس العربية بنحو 4 مليارات دولار أمريكي. أي إن هذا الفارق الصادم بين المفروض أن يكون وبين الواقع المتحقق - ولا يزال الرقم الأول مرصودا والرقم الثاني تقديريا محتملا بالطبع؛ أكثر من خمسة أضعاف تقريبا. ولا بد من وقفة متأنية ومتألمة مع هذا الجديد المعلن من إبسوس العربية مؤخرا، خاصة المرصود فعليا.

وللمعلومية هذه ليست أول مرة تعلن فيها شركة كبرى لدراسات الوسائل مثل هكذا فارق شاسع بين الإنفاق المفروض للإنفاق، وبين الإنفاق الفعلي المتحقق الذي لا يزال رقما تقديريا يعزى لخبرة إبسوس وربما يكون الأقرب للحقيقة أو الواقع.

في بدايات هذا القرن الجديد وتحديدا عام 2002-2003م استخدمت شركة بارك ذات المنهج والأسلوب كجرس إنذار مبكر لتدهور الأحوال ليس فقط بالنسبة للتعرفة الإعلانية، ولكن للصناعة الإعلانية بأطرافها الثلاثة مجتمعة أيضا. فقد أعلنت بارك ولأول مرة في المنطقة أن المتحقق فعلا من الإنفاق الإعلاني أقل بفارق يصل في حدود 3 أضعاف تقريبا من المفترض إنفاقه، وفقا لقوائم الأسعار المعلنة قبل عقدين تقريبا. وقد عانت بارك كثيرا جراء ذلك الإعلان في حينه، وبدأت جولات وصولات على من نعلق الجرس في هذا الفاقد، المعلن أم الوكالة الإعلانية أم الوسيلة الإعلانية أم جميع ما سبق. ونتمنى ألا تعاني إبسوس العربية جراء إعلانها هذه المرة وبفارق صادم يتجاوز 5 أضعاف بين المفترض أن يكون والفعلي التقديري.

ومما لا شك فيه أن هناك أسبابا عديدة لوجود مثل هكذا فاقد متزايد لم نكن لنجده في بدايات هذا القرن إلا في بعض دول الإعلان في أمريكا الجنوبية، مثل البرازيل والأرجنتين ويصل فيهما الفارق إلى 4 أضعاف. وقد ارتبط ذلك أيضا بارتفاع نسب التضخم في تلك الدول وسياسات حرق الأسعار، إلا أن حدوث هذا الأمر في الحاضر وفي المنطقة العربية يعد مؤشرا خطيرا جدا يجب الوقوف على أسبابه والتصدي له تفاديا لمزيد من الانهيارات، ليس فقط الإعلانية والإعلامية والترويجية والتسويقية، ولكن أيضا الاقتصادية في عالمنا العربي، والجميع في المنطقة في غنى عنها.

وعودة لبعض الأسس العامة لفهم أبعاد خطورة الموقف من زوايا اقتصادية وإعلامية قبل أن تكون إعلانية بحتة. يقدر الناتج المحلي للدول العربية في عام 2019 في حدود 2.7 تريليون دولار أمريكي. علما أن معدل متوسطات الإنفاق الإعلاني لدول العالم المتقدم تقدر من قبل المتخصصين في صناعة الإعلان بما لا يقل عن 1.5% من إجمالي الناتج المحلي لاقتصاديات أكبر مئة دولة في العالم. وقد تصل هذه النسبة إلى 3% أو أكثر في بعض الدول المتقدمة مثل أمريكا.

ومع الأخذ بالمعدل المتوسط وهو 1.5% من إجمالي الناتج المحلي لاقتصاديات الدول العربية، نجد أنه من المفترض أن يصل إجمالي الإنفاق الإعلاني للدول العربية إلى أكثر من 40 مليار دولار أمريكي. بمعنى آخر إن الفاقد الأساسي للرقم المفترض أن يكون هو الضعف تقريبا لما تم رصده من إبسوس العربية في عام 2019. وقد يكون العامل الأساسي في ذلك هو ضعف اقتصاديات هذا السوق وضعف الاهتمام بالتسويق عموما، علاوة على انخفاض نسبة قطاع الخدمات بشكل عام والخدمات التسويقية بشكل خاص في مكونات الناتج المحلي الإجمالي في أغلب دول المنطقة العربية. ولهذا وجدنا الإنفاق الإعلاني في سوق مثل دولة الإمارات العربية المتحدة يفوق الإنفاق الإعلاني في دولة مثل مصر والسعودية، على الرغم من أن وضع الأخيرة استثنائي للغاية، ويطول شرحه بالتفصيل لاحقا.

خلاصة القول هنا إن إجمالي المرصود فعليا والمعلن رسميا من قبل شركة إبسوس العربية يمثل أصلا نصف المفروض أن يكون عليه الإنفاق الإعلاني في عالمنا العربي - للأسف الشديد - وتلك هي المأساة الكبرى في الأساس. إنها قصة العسل المسكوب هدرا بين الواقع المرصود إعلانيا وما يجب أن يكون عليه الحال أصلا وبين ما هو تقديري متحقق فعلا.

ومما يزيد الطين بلة أو الأمر شدة وعسرة، أنه حتى لو سلمنا بوجود المرصود حاليا وهو الآن ووفقا لإبسوس العربية فإن ذلك النصف المفترض لا نجده أيضا. فقد أقرت إبسوس العربية بأننا لا نجد إلا قرابة 20% منه فقط، ليهدر أو يتلاشى ما قيمته 18 مليار أيضا هباء منثورا أو هدرا مسكوبا.

والسؤال هنا:

لماذا نبكي أو نتباكى على هذا اللبن أو العسل المسكوب بداية من الوقوف على الأرقام المعلنة وغير المعلنة. فهناك 20 مليار دولار فاقد أساسي تمشيا مع اقتصاديات العالم. ثم هناك ما قيمته تقديرا وفق إبسوس 18 مليار فاقد مخصوم من الفاقد الأساسي عن الإنفاق الفعلي في المنطقة.

وليت الأمر يخص حرمان كل الوسائل الإعلامية والإعلانية من كل هذه المليارات والمقدرات والمداخيل فحسب، ولكنه في حقيقة الأمر يستجلب مؤشرات كمية وكيفية الموارد البشرية المهدرة جراء فقدان هذه المبالغ.

إننا نتحدث هنا عن نحو 38 مليار دولار أمريكي يمكن أن تمثل نحو 2.5 مليون وظيفة بمتوسط دخل سنوي لكل وظيفة في حدود 15 ألف دولار. علما أن هذه الوظائف يمكن توزيعها على كل قطاعات الإعلان من معلنين ووكالات إعلانية ووسائل إعلامية وإعلانية في المنطقة العربية.

إن نصف هذا الرقم وحده فقط ووفقا لإبسوس العربية يكفي لحل العديد من إشكاليات الموارد البشرية والتوظيف في العالم العربي أجمع في العقد الحالي. وللحديث بقية عما ورد في تقرير إبسوس العربية عن الإنفاق الإعلاني لعام 2019م.

@aabankhar