أحمد الهلالي

طوير تنبت أجنحته بعد الخمسين!

الثلاثاء - 12 مايو 2020

Tue - 12 May 2020

قصة حقيقية ربما تقع، جميع شخصياتها واقعيون يعيشون بيننا اليوم، لكن لا أحد في العالم يعرفهم، تفاصيلها في رسالة طوير إلى ابنه عبد الأول:

ابني الغالي: في مثل هذا اليوم ولد أبوك قبل 55 سنة، قضيتها منذ بلوغي الثامنة في خدمة جديك (يرحمهما الله)، فقمت بدوري في الرعي والزراعة والسقيا وجمع الحطب وإكرام الضيوف وجلب المواد اللازمة لمعيشتنا مثلما تفعل أنت، حتى بلغتُ العشرين فاقترنت بأمكم، وتقاسمت وإياها العناء في خدمتكم، فمنذ أن انتفخ بطنها بك، انتفخت روحي بهمّ الأبوّة والأبناء، وظللت أسعى جاهدا، وأنحت في صخر الحياة لتعيشوا بصحة وسعادة، وكدحت طويلا لتعيشوا في كفاف وحياة كريمة، تحملت أعباء الدَّين كي أبني لكم عشا يؤويكم، وتكللت كل مساعيّ بالنجاح، ولم تحتاجوا إلى أحد.

ابني الغالي: وأنت تقرأ رسالتي هذه في جانب من الأرض، فتأكد أني في جانب آخر بعيد عنك، فلا تحزن أولا، ثم لا تكلف نفسك عناء البحث عني، فكل محاولاتك ستفشل، لأنني بمحض إرادتي وإصراري عزمت على هذا واخترته، وخططت له، ورتبت كل متعلقاته منذ خمس سنوات، فسددت جميع الديون، واعتمدت عليك لتقوم بدوري الذي قمتُ به قبلك، وجمعتُ المال الذي يكفيني، وتركت لكم ما يساعدكم، ومضيت في سبيلي، أبتغي أن أعيش ما تبقى من عمري في أمن من التوتر والقلق والتأوهات والترقب المضني، فمرض أحدكم يمرضني، وتأخره يمزقني هلعا، وحزنه وهمّه يذيبني كمدا، وآلامكم تصهرني، لذا قررت أن أكسر طوق الدائرة وأعيش لنفسي ما تبقى.

اعلم يا بني أنني لست أول هارب من أسرته، فأكثر من نصف أصدقائي هاربون، يقضون جل أوقاتهم في الاستراحات والأسفار بين المدن والقرى والمناسبات الاجتماعية الكثيرة والبر والسياحة، وأصدق وصف لهم أنهم «هاربون في حبال طويلة، وأجنحة واهنة»، فهروبهم لم يغن عنهم شيئا من آلام المسؤولية وأوصاب الارتباط والهم والقلق والتوتر والانشطار والاضطراب، فما أمراض السكر والضغط والقولون وغيرها من الأمراض إلا مظاهر جسدية، وما تخفي أرواحهم أكبر، فلا تستكثرن على أبيك أن يقطع الحبل فيكون هاربا حقيقيا، إن لم يفدكم، سيحاول أن يجد الراحة والحرية على الأقل.

ابني الحبيب: أنا لست في الداخل، ولست في الخارج، وإن بقيت في الداخل فإنني في مدن شتى، وإن خرجت فلي أماكن في بلدان متفرقة، فلا ترهق ذاتك ولا ترهقني بالبحث عني، فهذا اختياري، ولم أنسَ الوصية، فقد وثقتها رسميا، وأمّنتها لدى من أثق به ويعرفكم، وحين يسلمها إليكم فادعوا لأبيكم، ولا تظنوا به السوء، فكل ما أقدمت عليه ليس إلا بعد تأملي في حياة العالمين، إذ دأب الناس منذ القدم يفنون أعمارهم في خدمة أحبابهم، ولم يعش أغلبهم لنفسه أكثر من لحظات لا تذكر في ميزان عمره، ورأيت في هذا ظلما للنفس، وجورا لا يليق بالبشري، ومن العدل أن أرفعه عن نفسي، وأسن سابلة للمتعَبين!

ابني العزيز: أرسلت نسخة من هذه الرسالة إلى عمك عبدالنور، وطلبت أن يقرأها على أعمامك وأقاربنا، وأرجو أن تقرأها على أمك وإخوتك وأخواتك وأن تفهّمها لأبنائكم أيضا، ولا تظنوا بي السوء، أو تسمحوا لغماز أو لماز أن يشوه صورتي في عقولكم أو قلوبكم، وكيلا تحزن أمكم فقد تركت لها ورقة الحرية في درج سيارتك، وتحتها شيك لا يصرفه غيرها، وإن طالت حياتها بعدي ففي الوصية بند يخصها.

ابني الغالي: أنا متقاعد من عملي الآن، وقد شطرت راتبي إلى نصفين، أحدهما لي والآخر سينزل شهريا في حسابك، وقد رسمت خطة لحياتي ليس فيها التزام بأي أمر على الإطلاق، فلن أقوم إلا بما أحب من الأعمال، دون التزام أو مساءلة من أحد، كل هذا بحثا عن الحرية التي افتقدتها ولم أجدها في طفولتي ولا فتوتي، ولا شبابي، ولا كهولتي، وأرجو أن أستقبل الشيخوخة بجناحين ثابتين.

ختاما: كل هذا قيد التجربة لمدة عام كامل، فإن لم أقوَ على تنفيذ هذه الرغبة فسأعود إليكم، وإن قدرت على امتلاك زمام حريتي، فاذكروني بالخير دائما وادعوا لي بالتوفيق في مسعاي المشروع، وأرجو أن تمنح أمك وإخوتك وأبناءك وأسرتك وعملك وجماعتك ومجتمعك كامل اهتمامك، ثم حاول الاهتمام بك إن وجدت إلى ذلك سبيلا، والسلام.

والدك: القابض على جناح وهم يرجو تحققه.

ahmad_helali@