منيف خضير الضوي

الكايزن.. بضاعتنا ردت إلينا

الخميس - 05 مارس 2020

Thu - 05 Mar 2020

هذا الأسبوع قرأت أربعة كتب عن منهجية التحسين المستمر الكايزن KAIZEN، (كتاب الصديق الأستاذ ماجد العوشن الكايزن.. أسرار الإدارة اليابانية، وكتاب الدكتور مدحت أبوالنصر الكايزن اليابانية، وكتابين للدكتورة عبير العقباوي الكايزن، وكايزن.. بين النظرية والتطبيق)، والمتتبع لهذه الكتب النوعية لا شك سيلحظ التشابه الكبير بينها، لأنها تتحدث عن منهجية ومصطلحات ومفاهيم ثابتة، وتشعر مع نوعية الكتب التي تتحدث عن نظريات معروفة أن شعلة (السبق) قد حملها أولا من يجيد الترجمة من المصدر، ويأتي بعد ذلك من يقتبس من هذه الشعلة، والأمر كذلك في الدورات التدريبية.

والحقيقة أن موضوع التطوير الإداري والجودة قد شغل تاريخ البشرية، فقد ظهرت نظريات وفلسفات وأفكار إدارية وقيادية تبلورت في مطلع الثمانينيات ابتداء بحركة تايلور (أبو الإدارة العلمية)، مرورا بالكايزن اليابانية التي ظهرت على يد تاييشي أوهونو، وقد أعجب الناس وتعلقوا بالنموذج الياباني تحديدا ووجد له سوقا رائجة، ذلك أن اليابان تعافت بعد الحرب العالمية الثانية التي دمرتها آنذاك، وبلغت الصناعات اليابانية أوج ازدهارها بعد الحرب، وعزا المراقبون كل ذلك إلى منهجية الكايزن.

من هنا باتت شعوب العالم، بمن فيها الشعوب العربية المستهلكة لكل شيء، تتلقف هذا النموذج كأنه العصا السحرية التي يراهن عليها المؤلفون والمدربون وأرباب التطوير، ولكن من وجهة نظري المتواضعة أرى أن السبب في تميز منهجية الكايزن (KAIZEN) ليس في المعايير النظرية فحسب، التي تبنتها هذه المنهجية، خاصة أنها لم تنجح في كثير من الممارسات الإدارية العربية، ذلك أن تطبيقها هنا وهناك لم يكن بذات الآلية، ففي اليابان بنيت المنهجية على ثقافة سلوك إيجابي مؤمن بالتغيير وأهمية التدريب المسبق على كيفية التطبيق مع الالتزام بتعليمات الأداء ابتداء من التحسينات الصغيرة. ولعل من أهم أسباب نجاح منهجية الكايزن في اليابان سياسة التفويض والتمكين التي تتيح لأصغر الموظفين الصلاحية للتحسين وإزالة الهدر في الوقت المناسب.

أما عن بعض المجتمعات الأخرى التي لم تنجح فيها كايزن (كالمجتمع الأمريكي مثلا) فطبقت المنهجية بعقلية التغير لا التغيير، مما أعاق نجاحها خاصة في مراحل التقييم التي تعود بهم لمراجعة الفاقد مرارا وتكرارا، ولا يخفى علينا أن التغيير لا يمكن أن يتم بشكل مفاجئ، لذلك نجد أن الدول المتحضرة هي أكثر الدول التي نجحت فيها منهجية كايزن، مثل ألمانيا تحديدا وأوربا عموما، واليابان مجتمع مثالي ومنظم ومتعاون (مثله مثل ألمانيا) تنجح معه كل النظريات الإدارية، وليس كايزن فقط، لأن هذه المجتمعات تتميز بما يعرف بالتأدب والالتزام الداخلي (selfdiscipline).

طبعا أنا هنا لا أقلل من قدرة المجتمعات الأخرى، ولكن أريد التأكيد على أهمية صناعة المجتمعات وتأهيلها أولا لتكون قابلة للتطوير والاستفادة من كل نظرية جديدة، ففي مجتمعنا الإسلامي أبدلنا الله خيرا من كايزن وغيرها، أبدلنا الله بتعاليم ديننا القوية التي تؤكد أهمية الأمانة والإخلاص في العمل، وأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها هو أحق بها، وتعاليم ديننا تحض على العلوم والقراءة، وإذا تحدثنا عن جمبا كايزن GEMBA ـ على سبيل المثال ـ وهي إدارة المكان أو وجود القائد في مكان الحدث؛ فإن النموذج الإسلامي ضرب أروع الأمثلة في ذلك.

دعونا نعد إلى عهد بناء المسجد النبوي الشريف، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يساعد أصحابه في البناء ويحمل معهم الِّلبن والحجارة، وعند حفر الخندق كان يساعدهم عندما تعاندهم صخرة من صخور المدينة المنورة، ويربط بطنه من الجوع مثل أصحابه، وحفروا الخندق المعجزة في نحو أسبوعين وطوله تقريبا أكثر من 2700م، وعرضه وعمقه تقريبا تسعة أذرع إلى عشرة، هذه هي جمبا GEMBA كايزن الحقيقية، فهل تعرفون نموذجا يرتقي على النموذج الإسلامي؟

ويتناقل كثير من المدربين والمؤلفين مصطلحات مثيرة وجديدة تستهوي حب استطلاع المستفيدين، مثلما يتعلق بتقليل الفاقد (الهدر) مودا (Muda) وتعني هدر المال والوقت، ومورا (Mura) الهدر الناتج عن التضارب في مجال العمل والصلاحيات، وموري (Muri)، وتعني زيادة الإجهاد البدني للموظفين، ولهؤلاء أقول إن ديننا الإسلامي أعظم منهج عرفه التاريخ في حفظ الضروريات الخمس، ومنها المال، وفي حديث لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وذكر منها (عمره، وجسده، وعلمه، وماله )، وغيرها كثير، فالإسلام يستهدف تنمية روح الإنسان، وغرس مبدأ الإخلاص والرقابة الذاتية من الخالق سبحانه عن طريق مفهوم «الإحسان» وهو أن تعبد الله كأنك تراه، واستثمار الوقت، وهذا ربما لا تستطيعه كثير من النظريات الإدارية الحديثة على أهميتها وتأثيرها الملحوظ.

لو طبقنا تعاليم ديننا بإخلاص لأصبح الموظف المسلم والمصنع المسلم نموذجا يحتذى، هذا هو الفرق بين المجتمعات التي طبقت منهجياتها وبين شعوبنا المتلقفة لمناهجهم رغم وجود أعظم منهج عندها، ونؤكد أن هذا المقال لا يعني تهميش هذه النظريات أبدا، ولكن للتوعية بأنها «بضاعتنا ردت إلينا» فمن المؤكد أن الإسلام لم يأت بمفاهيم قوائم الفحص وتحليل باريتو والعصف الذهني وحلقات الجودة ومخطط السمكة، لكنه لم يلغِ التعامل معها والاستفادة منها، فالحكمة ضالة المؤمن، ولكن الله سبحانه وتعالى أبدلنا خيرا من كايزن KAIZEN، وإن تمسكنا به فلن نضل أبدا على كل الأصعدة، ومنها الممارسات الإدارية، وهما كتاب الله وسنة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم، فهل نكف عن التقليد الأعمى لتجارب الآخرين ونعمد للاستفادة منها بما يتماهى مع منهجيتنا العظمى؟!

نرجو ذلك من أجل منهجية حياة، وليس فقط منهجية عمل تنمو على أنقاض منهجيات سادت ثم بادت.

@mk4004