وليد الزامل

التخطيط العمراني والجدل البيزنطي

الأحد - 23 نوفمبر 2025

Sun - 23 Nov 2025



قبل فترة اتصل بي صديق يشكو من موقف حدث معه داخل أحد برامج التواصل الاجتماعي الخاصة بالشأن العمراني. يقول كنت أتحاور مع أحدهم وكان النقاش محتدا بيننا حول قضية في مجال التخطيط العمراني، ومع مرور الوقت بدأ الحوار يفقد طابعه العلمي ويتحول إلى جدل عقيم. كلانا يحاول إقناع الآخر، حتى تطور النقاش ليتحول إلى جدل متشنج، عندها فضلت مغادرة المجموعة نهائيا.

قلت لصاحبي لست مطالبا بإقناع شخص يملك رأيا مسبقا، والوقت الذي بذلته لإقناعه كان من الأولى أن تختزله في شيء أكثر فائدة. إن الجلوس مع الأسرة مثلا، أو قراءة كتاب مفيد، أو حتى احتساء كوب قهوة أجدى من الحوار العقيم معه؛ لأن بعض النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي لا تهدف للوصول إلى فهم مشترك أو معالجة موضوعية للقضية المطروحة. هذه الحوارات تتحول أحيانا إلى أشبه بصراع الديكة ويصبح الإقرار بصحة الرأي الآخر بمثابة الاستسلام في المعركة، أما الاعتراف بذلك فهو منقصة للكرامة كما يعتقدون. أرى أن أفضل استراتيجية للتعامل مع هؤلاء هي استخدام «استراتيجية القفز» وأعني بذلك تجاوز الشخص أو الفكرة العقيمة والمضي قدما، بدلا من الإصرار على اجترار الحوار معه إلى جدل بيزنطي يقلل من شأنك ومكانتك العلمية. صديقي من لديه موقف مسبق أو قناعة مبنية على غير علم، لن يغيرها بين عشية وضحاها حتى لو أتيت له بالحجج والبراهين كافة.

في المجال العمراني عموما نجد نماذج عديدة من هذه الشخصيات «المناكفة» التي تجد لذة في ممارسة الجدل، فهذا أحدهم يصر على محاولة تسطيح أهمية «التخطيط العمراني» بزعم أنه علم يمكن للجميع ممارسته بسهولة، وأنه لا يحتاج إلى تأهيل تخصصي. بالطبع محاولة تكريس هذه الفكرة هدفها معروف، ولكن الغريب أن هذا الشخص نفسه، حينما يشعر بوعكة صحية، يسارع فورا إلى أشهر الأطباء المتخصصين، ولا يقبل إلا بخبير معتمد؛ بل ويحاول الاطلاع على الشهادة المهنية وتاريخ الطبيب ومعدله التراكمي. وإن احتاج لنصيحة مالية أو استشارة سأل خبيرا ماليا حاصلا على شهادة في علم الاقتصاد والمالية. يؤمن بالعلم والتخصص تارة عندما يكون الأمر في صالحه؛ لكن حينما يأتي الأمر إلى «التخطيط العمراني» تتغير الصورة تماما وتختلط عليه الأمور ويتغير مجرى الحديث ليشمل مواضيع مثل أهمية الخبرة والمهارة وأحيانا الفهلوة دون التطرق إلى الإيمان بالتخصص. والحقيقة أن هذا النوع من الخطاب لا يعكس قناعة فكرية؛ بل هو تناقض صارخ يقلل من مستويات الموثوقية العلمية لهذا المحاور ويضعه في خانة الفكر المتحيز.

إن تجاهل هذه النماذج التي تعاني من ازدواجية في المنطق ليس ضعفا في الحجة والبيان، بل قوة في الإدارة، والصمت أبلغ حكمة. تجاهلهم، نعم تجاهلهم يا صديقي تقديرا لقيمة وقتك، وحاول أن توجه جهدك إلى ما هو أهم، فالجهد الذي يهدر في النقاشات العقيمة يمكن أن يتحول إلى ورقة علمية منشورة، أو محاضرة عامة، أو حتى مقالة صحفية تصل فائدتها إلى آلاف الأشخاص. إن الإيمان بالحوار البناء هو ما يسهم في إضافة مدخلات مستنيرة لتطوير المدن، أما الجدل البيزنطي فلا ينتج إلا المزيد من اللغط والصراعات الشخصية.

لهذا أقول لصديقي ولكل متخصص: دون أفكارك واحفظ وقتك، وتجاهل الجدل، واقفز فوقه فصوت العلم أعلى وأثره أعمق من أي نقاش لا جدوى منه.