عبير حيدر

تعليم العربية... مهمة لغوية بثوب حضاري

الخميس - 20 نوفمبر 2025

Thu - 20 Nov 2025


حين ندرس اللغة العربية للأجانب، فإننا لا نعلمهم فقط مفردات وقواعد وصيغا نحوية؛ بل نعلمهم روحا كاملة، تمتد إلى ما وراء الكلمات لتصل إلى قيم وأفكار وسلوكيات تشكل جوهر الثقافة العربية والإسلامية. إن اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل هي أيضا مرآة تعكس رؤية الإنسان للعالم، وتعبر عن منظومة قيمه وتصوراته للحياة.

اللغة بوصفها حاملا للثقافة
تشير دراسات علم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics) إلى أن أكثر من 70% من معاني اللغة لا تفهم إلا في سياقها الثقافي (Byram, 1997). فالكلمة لا تكتسب بمعناها القاموسي فقط، بل بظلالها الثقافية والاجتماعية. لذلك حين نعلم طلابنا كلمة مثل «البيت»، فنحن لا نعلمهم مكانا ماديا للسكن فقط، بل نغرس معهم مفهوم الدفء، والستر، والخصوصية، واحترام حرمة المكان.

ولذلك فإن مفهوم «الاستئذان قبل دخول البيت» ليس قاعدة لغوية نقولها في درس «الفعل المضارع» فحسب، بل هو درس في الأخلاق الاجتماعية واحترام الحدود الشخصية، وهو أحد المفاهيم التي أكد عليها القرآن الكريم في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها». (سورة النور: 27).

دور المعلم كناقل للقيم الثقافية
المعلم في هذا السياق لا يكتفي بدور «الناقل المعرفي»، بل يصبح سفيرا ثقافيا، ينقل صورة مجتمعه إلى الآخر بأمانة وإنصاف.

فعندما نشرح للطلاب مفاهيم مثل «ربة البيت» أو «الأدوار الأسرية التقليدية»، فنحن لا نكرس النمطية، بل نفسر السياق الاجتماعي والثقافي الذي نعيش فيه، ونفتح حوارا عقلانيا حول اختلاف توزيع الأدوار في الثقافات الأخرى.

لقد فوجئت مرارا - كما تقول إحدى الدراسات الصادرة عن جامعة ليدن الهولندية (2021) - بأن كثيرا من الطلاب الغربيين الذين درسوا العربية للمستوى المتقدم بدأوا يدركون أن دور الأم في الثقافة العربية لا يقاس بعدد الساعات في العمل، بل بعمق تأثيرها في الأسرة والتربية والوجدان الجمعي. فالمفهوم هنا مختلف نوعيا، وليس مجرد توزيع مهام.

من الحلال والحرام إلى الضمير الإنساني
حين نعرف الطلاب بمفاهيم «الحلال والحرام»، لا نقدم دروسا دينية بقدر ما نقدم إطارا أخلاقيا وإنسانيا يربط السلوك بالمسؤولية. فحين نقول «الكذب حرام، والغش مرفوض، والنميمة محرمة»، فنحن نعلمهم معنى الصدق، والأمانة، واحترام الإنسان، وهي قيم إنسانية تتجاوز الدين لتصل إلى جوهر الأخلاق العالمية.

بل إن تعليم هذه المفاهيم يساعد الطلاب على فهم السلوك اليومي العربي: لماذا يرفض بعض العرب لمس الكحول؟ ولماذا ينظر إلى الصدق والتواضع باحترام عظيم؟

كل ذلك لا يمكن فصله عن تعليم اللغة ذاتها. فاللغة العربية، بتركيبها الجمالي الغني، تحمل داخلها نظاما قيميا متكاملا، يبدأ من طريقة التحية (السلام عليكم ورحمة الله) وينتهي بعلاقة الإنسان بنفسه وبالآخر.

الثقافة العربية بين الفرد والجماعة
من أكثر المفاهيم التي تثير فضول الطلاب الأجانب هو مكانة العائلة في المجتمع العربي.

فهم يأتون غالبا من ثقافات فردية (individualistic cultures)، بينما ثقافتنا ذات طبيعة جماعية (collectivist). لذلك يحتاج المعلم إلى توضيح أن قيمة العائلة والاحترام للكبير ليست تقاليد جامدة، بل هي جزء من فلسفة اجتماعية عميقة تؤمن بأن الفرد لا يكتمل إلا ضمن نسيجه العائلي.

حين ندرس عبارات مثل «احترام الكبير» أو «صلة الرحم» أو «بر الوالدين»، فإننا في الواقع نعيد تعريف مفهوم «الإنسان المتوازن»، الذي لا ينفصل عن أسرته أو مجتمعه. وتظهر دراسات تربوية أجريت في جامعة قطر (2022) أن أكثر من 60% من طلاب العربية للناطقين بغيرها عبروا عن إعجابهم بالقيم الاجتماعية العربية بعد دراسة الثقافة إلى جانب اللغة.

بين اللغة والسلوك: من التحية إلى المسافة
تتجلى الفروق الثقافية في التفاصيل اليومية الصغيرة:
طريقة التحية (مصافحة أم انحناءة؟)، المسافة أثناء الحديث بين رجل وامرأة، متى نستخدم كلمة «أستاذ» أو «دكتور»؟

كل هذه الأمور تشكل جزءا من الكفاءة التواصلية الثقافية (Intercultural Communicative Competence)، التي تعد اليوم أحد أهم معايير جودة تعليم اللغات الحديثة.

لماذا ندرس الثقافة؟
ندرس الثقافة لأن اللغة بلا ثقافة جسد بلا روح.
ندرسها لنفتح حوارا بين الشرق والغرب، ولنعيد تعريف العالم بنا كما نحن، لا كما تقدمه الصور النمطية.

ندرسها لأن طالب العربية حين يفهم سياقها الأخلاقي والاجتماعي يصبح أقرب إلى فهم جوهرها الجمالي والروحي.
ولأن تعليم الثقافة هو نوع من الدبلوماسية الناعمة (Soft Diplomacy) التي تصنع التفاهم قبل أن تخلق الاتفاق.

حين نعلم العربية، نحن في الواقع نمارس فعلا إنسانيا كبيرا:
نعرف العالم على ثقافة فيها حياء بلا ضعف، واحترام بلا خوف، ودين بلا تعصب، وعائلة بلا قيد.

ومن يدرس هذه اللغة العريقة، لا يعلمها ليضيف حروفا إلى ألسنة الناس، بل ليضيف فهما، واحتراما، وسلاما إلى قلوبهم.