بيانات كبيرة وعقول صغيرة
الاثنين - 23 مايو 2016
Mon - 23 May 2016
لم يستيقظ المتابعون للانتخابات الأمريكية من صدمة فوز دونالد ترامب بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الأمريكية - بعد أشهر من الاعتقاد بأن المؤسسة الحزبية ستهزم ترامب وتختار مرشحها كما تشاء – حتى منوا بصدمة أخرى تمثلت في تقدم ترامب على هيلاري كلينتون في عدد من استطلاعات الرأي التي تقيس نية التصويت لدى الناخبين في الانتخابات العامة.
ولا تزال فكرة «ترامب لن يصبح رئيسا» هي الدافع المسيطر على تحليلات النقاد وكتابات الصحفيين المدفوعين بحجة بسيطة مفادها أن شخصا بعنصرية وغرور وتعصب ترامب لا يمكن تخيله رئيسا لدولة بحجم الولايات المتحدة.
لم يستغرق ترامب سوى أسبوعين منذ إعلان ترشحه للرئاسة في يونيو من العام الماضي ليتصدر استطلاعات الانتخابات كأكثر مرشح تفضيلا من قبل الناخبين واستمر في ذلك حتى انسحب آخر منافسيه من السباق وأصبح المرشح المفترض. ومع ذلك فقد واصل المحللون محاولاتهم لرفض البيانات والأرقام الدالة على تفوق ترامب والتقليل من شأنها تارة بحجة أن الانتخابات لا تزال مبكرة جدا وتارة أخرى بحجة أن المرشحين المتعصبين سرعان ما يفقدون تأييدهم بعد بداية المناظرات. كذب المحللون الذين انشغلوا بإثبات مواقفهم المسبقة وأثبتت البيانات المجردة من أي تحيز صحة ما أشارت إليه منذ اللحظات الأولى لبداية السباق الرئاسي.
صعود ترامب شكل صدمة ولكنه لم يكن مفاجأة إذ توقعته كل مؤشرات قياس توجه الناخبين. لم الصدمة إذن؟ هذه الظاهرة لم تقتصر على المتابعين بل امتدت إلى خبراء السياسة الأمريكية والسبب الوسيط هو علة نتشاركها جميعا في طريقة تفكيرنا تعرف في علم النفس بالاستدلال المدفوع وتشير إلى رفض الأدلة التي تخالف تفكيرنا السائد مهما كانت درجة الإقناع التي تحملها هذه الأدلة. وحاليا يتوقع راي فيير أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل أن يفوز الحزب الجمهوري بقيادة ترامب بالبيت الأبيض هذا العام بناء على نماذج إحصائية نجحت سابقا في التنبؤ بشكل صحيح بنتائج 7 من أصل آخر 9 دورات انتخابية. ورغم مواصلة البيانات تفضيل ترامب في مواجهة هيلاري كلينتون، يكرر المحللون والصحفيون جولة أخرى من الاستدلال المدفوع ويرفضون تصور رئاسة ترامب بتفسيرات مشابهة لما رددوه قبل ستة أشهر مثل: ما زال الوقت مبكرا لقياس ما سيحدث في نوفمبر أو هيلاري ستعود بمجرد حسم سباقها مع بيرني ساندرز. رئاسة ترامب ربما تخالف المنطق والمفترض ولكنها لا تخالف البيانات. ومهمة البيانات وصف الحقيقة وليس تأكيد المنطق. بل إن هذه البيانات تعكس بدقة حقيقة الغضب المتنامي في أوساط المنتخبين من إدارة أوباما والذي لم يتصور أحد أن يكون نتيجتها ترامب.
هذه الحالة لا تتوقف على ترامب أو السياسة بشكل عام وإنما تمتد إلى جميع المناحي التي تخبرنا فيها البيانات عكس ما نتمناه أو نتصوره لازما ومنطقيا. فقد وجد استطلاع أجرته شركة الاستشارات بي دبليو سي على 1100 إداري تنفيذي حول العالم أن 23 % منهم فقط يعتمدون على البيانات كخيار أول في اتخاذ قراراتهم. فكيف يمكننا الارتقاء بعقولنا المحدودة بتحيزاتنا ونطاق تجاربنا لنستفيد من حجم البيانات التي باتت تقيس مختلف أنشطتنا وتصرفاتنا من مستوى الفرد الواحد إلى المجتمع بأكمله؟
اتخاذ القرارات بالاعتماد على الخبرة والحدس وحدهما يعد قصر نظر وغباء أحيانا، وأما اتباع البيانات مباشرة دون استقراء أو تحليل فهو مخاطرة تتوقف على جودة البيانات وحداثتها وشموليتها. الحكم الذكي يجمع بين الخبرة والبيانات لتكمل بعضها دون أن تستخدم الخبرة لعطف البيانات نحو ما نشتهي حدوثه ودون أن تتحول عملية التفكير كلها إلى أرقام مجردة من سياقها. دعني أشرح ذلك:
البيانات والخبرة والتوقعات كلها مصادر تساعد في نقل عملية الحكم واتخاذ القرار من خانة التخمين العشوائي إلى خانة الثقة واليقين. وأفضل سبيل نحو اليقين هو جمع أكبر عدد من المصادر واستخدامها جميعا بدلا من الاعتماد على مصدر واحد أو اختيار المصادر التي توافق الهوى والرأي فقط. هل سمعت عن مسابقة تخمين وزن البقرة؟ هذه المسابقة قام بها العالم البريطاني فرانسيس قالتون لاختبار ما إذا كان العامة بمقدورهم تخمين وزن بقرة (يبلغ وزنها الحقيقي 1198 باوند) بشكل أدق من أصحاب الخبرة من المزارعين والجزارين. والنتيجة أن متوسط توقعات العامة الذين لا علاقة لهم بالأبقار كان 1197 باوندا، أقرب من جواب أي خبير! الكثرة تغلب الشجاعة والكثرة في مصادر التوقع تغلب خبرة أي شخص أو استفتاء بمفرده مهما بلغت جودته.
في السياسة والاقتصاد والأعمال وحتى الرياضة نعيش هوسا بجمع البيانات والتباهي بحجم ملفاتها والتفنن في عرضها في شكل انفوغرافيك وتقارير غالية الطباعة. ولا يكاد متحدث يفتح فمه اليوم دون أن يضمن حديثه أرقاما وإحصاءات لا تعلم مصدرها أو سياقها. غير أن البيانات مستقلة في ذاتها لا تترجم مباشرة إلى حكم ذكي أو معرفة مفصلة بوقائع الأمور ومستقبلها. ترامب كان وما زال تجربة اجتماعية ضخمة تشرح نتائج المواجهة بين التصور في شكل الخبرة والرأي وبين والواقع في شكل الاستفتاءات. وبين هذين الطرفين قد يجد متخذ القرار نفسه ضحية لعلة الاستدلال المدفوع ليخلط مشاعره وتفضيلاته بالبيانات فيقص منها ما يناسبه، أو قد يجنب حدسه وخبرته ليصبح تابعا أعمى لأرقام قد يثبت سوء جمعها أو قصر مداها. ودائما تذكر: متوسط التوقعات خير من أفضل المتوقعين.
ولا تزال فكرة «ترامب لن يصبح رئيسا» هي الدافع المسيطر على تحليلات النقاد وكتابات الصحفيين المدفوعين بحجة بسيطة مفادها أن شخصا بعنصرية وغرور وتعصب ترامب لا يمكن تخيله رئيسا لدولة بحجم الولايات المتحدة.
لم يستغرق ترامب سوى أسبوعين منذ إعلان ترشحه للرئاسة في يونيو من العام الماضي ليتصدر استطلاعات الانتخابات كأكثر مرشح تفضيلا من قبل الناخبين واستمر في ذلك حتى انسحب آخر منافسيه من السباق وأصبح المرشح المفترض. ومع ذلك فقد واصل المحللون محاولاتهم لرفض البيانات والأرقام الدالة على تفوق ترامب والتقليل من شأنها تارة بحجة أن الانتخابات لا تزال مبكرة جدا وتارة أخرى بحجة أن المرشحين المتعصبين سرعان ما يفقدون تأييدهم بعد بداية المناظرات. كذب المحللون الذين انشغلوا بإثبات مواقفهم المسبقة وأثبتت البيانات المجردة من أي تحيز صحة ما أشارت إليه منذ اللحظات الأولى لبداية السباق الرئاسي.
صعود ترامب شكل صدمة ولكنه لم يكن مفاجأة إذ توقعته كل مؤشرات قياس توجه الناخبين. لم الصدمة إذن؟ هذه الظاهرة لم تقتصر على المتابعين بل امتدت إلى خبراء السياسة الأمريكية والسبب الوسيط هو علة نتشاركها جميعا في طريقة تفكيرنا تعرف في علم النفس بالاستدلال المدفوع وتشير إلى رفض الأدلة التي تخالف تفكيرنا السائد مهما كانت درجة الإقناع التي تحملها هذه الأدلة. وحاليا يتوقع راي فيير أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل أن يفوز الحزب الجمهوري بقيادة ترامب بالبيت الأبيض هذا العام بناء على نماذج إحصائية نجحت سابقا في التنبؤ بشكل صحيح بنتائج 7 من أصل آخر 9 دورات انتخابية. ورغم مواصلة البيانات تفضيل ترامب في مواجهة هيلاري كلينتون، يكرر المحللون والصحفيون جولة أخرى من الاستدلال المدفوع ويرفضون تصور رئاسة ترامب بتفسيرات مشابهة لما رددوه قبل ستة أشهر مثل: ما زال الوقت مبكرا لقياس ما سيحدث في نوفمبر أو هيلاري ستعود بمجرد حسم سباقها مع بيرني ساندرز. رئاسة ترامب ربما تخالف المنطق والمفترض ولكنها لا تخالف البيانات. ومهمة البيانات وصف الحقيقة وليس تأكيد المنطق. بل إن هذه البيانات تعكس بدقة حقيقة الغضب المتنامي في أوساط المنتخبين من إدارة أوباما والذي لم يتصور أحد أن يكون نتيجتها ترامب.
هذه الحالة لا تتوقف على ترامب أو السياسة بشكل عام وإنما تمتد إلى جميع المناحي التي تخبرنا فيها البيانات عكس ما نتمناه أو نتصوره لازما ومنطقيا. فقد وجد استطلاع أجرته شركة الاستشارات بي دبليو سي على 1100 إداري تنفيذي حول العالم أن 23 % منهم فقط يعتمدون على البيانات كخيار أول في اتخاذ قراراتهم. فكيف يمكننا الارتقاء بعقولنا المحدودة بتحيزاتنا ونطاق تجاربنا لنستفيد من حجم البيانات التي باتت تقيس مختلف أنشطتنا وتصرفاتنا من مستوى الفرد الواحد إلى المجتمع بأكمله؟
اتخاذ القرارات بالاعتماد على الخبرة والحدس وحدهما يعد قصر نظر وغباء أحيانا، وأما اتباع البيانات مباشرة دون استقراء أو تحليل فهو مخاطرة تتوقف على جودة البيانات وحداثتها وشموليتها. الحكم الذكي يجمع بين الخبرة والبيانات لتكمل بعضها دون أن تستخدم الخبرة لعطف البيانات نحو ما نشتهي حدوثه ودون أن تتحول عملية التفكير كلها إلى أرقام مجردة من سياقها. دعني أشرح ذلك:
البيانات والخبرة والتوقعات كلها مصادر تساعد في نقل عملية الحكم واتخاذ القرار من خانة التخمين العشوائي إلى خانة الثقة واليقين. وأفضل سبيل نحو اليقين هو جمع أكبر عدد من المصادر واستخدامها جميعا بدلا من الاعتماد على مصدر واحد أو اختيار المصادر التي توافق الهوى والرأي فقط. هل سمعت عن مسابقة تخمين وزن البقرة؟ هذه المسابقة قام بها العالم البريطاني فرانسيس قالتون لاختبار ما إذا كان العامة بمقدورهم تخمين وزن بقرة (يبلغ وزنها الحقيقي 1198 باوند) بشكل أدق من أصحاب الخبرة من المزارعين والجزارين. والنتيجة أن متوسط توقعات العامة الذين لا علاقة لهم بالأبقار كان 1197 باوندا، أقرب من جواب أي خبير! الكثرة تغلب الشجاعة والكثرة في مصادر التوقع تغلب خبرة أي شخص أو استفتاء بمفرده مهما بلغت جودته.
في السياسة والاقتصاد والأعمال وحتى الرياضة نعيش هوسا بجمع البيانات والتباهي بحجم ملفاتها والتفنن في عرضها في شكل انفوغرافيك وتقارير غالية الطباعة. ولا يكاد متحدث يفتح فمه اليوم دون أن يضمن حديثه أرقاما وإحصاءات لا تعلم مصدرها أو سياقها. غير أن البيانات مستقلة في ذاتها لا تترجم مباشرة إلى حكم ذكي أو معرفة مفصلة بوقائع الأمور ومستقبلها. ترامب كان وما زال تجربة اجتماعية ضخمة تشرح نتائج المواجهة بين التصور في شكل الخبرة والرأي وبين والواقع في شكل الاستفتاءات. وبين هذين الطرفين قد يجد متخذ القرار نفسه ضحية لعلة الاستدلال المدفوع ليخلط مشاعره وتفضيلاته بالبيانات فيقص منها ما يناسبه، أو قد يجنب حدسه وخبرته ليصبح تابعا أعمى لأرقام قد يثبت سوء جمعها أو قصر مداها. ودائما تذكر: متوسط التوقعات خير من أفضل المتوقعين.