رغم أن كثيرا من المؤرخين ممن جاؤوا بعد أبي الفرج الأصفهاني أضربوا عن الاعتماد على كتابه الأغاني كمصدر للرواية التاريخية، لتشيعه وتهوينه شرب الخمر، وكثرة ذكره لما يخدش الحياء ويسقط المروءة، إلا أنه لا يمكن الجزم بأن كل ما جاء في طيات الكتاب مكذوبا أو موضوعا.
فقد شهد للأصفهاني بأنه له المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس والشعر والغناء.
والحقيقة أن ما قرره الدكتور إحسان عباس في مقدمة تحقيقه لكتاب الأغاني يعتبر الفيصل في ذلك فهو يقول «لا فرق لدى أبي الفرج بين الحكاية المروية للتسلية وبين الخبر التاريخي، ومن يريد أن يجعل كتاب الأغاني مصدرا لدراسته لا بد له أن يفيد منه بحذر شديد وتكرار نظر، وضرب الروايات ببعضها».
والواقع أن من يتتبع كتاب الأغاني، يجد فيه مادة غنية لواقع الحجاز الاجتماعي في العصرين الأموي والعباسي، خاصة لدى الطبقة المخملية من الأمراء والتجار والأعيان ومن يتبعهم في العادة من الشعراء والمطربين والمغنيين والموالي.
ويجد فيه وصفا لمجالس السمر ومجالس الحكم بين الناس وحفلات المكيين وملابسهم والمراكب التي يستخدمونها وآلات طربهم ورحلاتهم وعاداتهم وأخلاقهم وغير ذلك، مما يشكل مادة علمية، لم يخصها المؤلف بالذكر وإنما جاءت عرضا ضمن رواياته التي يسترسل فيها، مما يجعل المادة تستحق الدراسة والتحقيق، سواء بإثبات ما فيها أو نفيه ونقده، فالكتاب مليء بما لم يذكره المؤرخون الذين ركزوا على العمران والسياسة في ما كتبوه، وأغفلوا الكثير من الجوانب الاجتماعية الأخرى، بما فيها الجانب المترف للمجتمع.
أما بالنسبة لموضوع كتاب الأغاني فهو ينقل كل ما يخصها في عصره وما قبله، ومن خلال ذلك يؤكد أن فن الغناء العربي استلهم في كل الأقطار التي وصلها من الفن الحجازي أهم مقوماته، وأورد الأصفهاني كثيرا من الدلائل والشواهد على ذلك.
فنجد إشارات واضحة إلى شيوع قواعد الغناء وانتقالها من أهل الحجاز إلى بقية الأقطار العربية ومن ذلك قوله «كان ابن سريج أول من ضرب بعيدان الفرس الغناء العربي بمكة، وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة فأعجب أهل مكة غناؤهم، فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائي، فضرب به فكان أحذق الناس»، وابن سريج من موالي أهل مكة، وكان من أبرع الناس في الغناء حتى قيل عنه «كأنه خلق من كل قلب فهو يغني لكل إنسان ما يشتهي».
وقيل في غنائه «الغناء على ثلاثة أضراب، فضرب مله مطرب يحرك ويستخف، وضرب ثان له شجا ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة وكل هذا مجموع في غناء ابن سريج».
وقصد الشاعر جرير مكة لسماع ابن سريج، فغناه وبيده قضيب يوقع به وينكت فقال جرير «لله دركم يا أهل مكة ما أعطيتم، والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظا ونصيبا، فكيف ومع هذا بيت الله الحرام ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم، وكثرة فوائدكم».
ويؤكد الأصفهاني أن فن الغناء العربي نبع من الحجاز حيث يقول «أصل الغناء أربعة نفر: مكيان ومدنيان، فالمكيان ابن سريج وابن محرز، والمدنيان معبد ومالك». أما عن انتقال فن الغناء الحجازي من الحجاز إلى العراق وغيرها، أورد الأصفهاني الكثير من الأخبار في ذلك، فيقول مثلا «كان معبد علم جارية من جواري الحجاز الغناء، تدعى ظبية، وعنى بتخريجها، فاشتراها رجل من أهل العراق فأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان، وأخذ جواريه أكثر غنائها عنها»، إلى أن يقول «فزار صاحبها معبد في الأهواز بعد وفاتها وقال له: والله لا قصرت في جواريك هؤلاء، ولأجعلن لك في كل واحدة منهن خلفا من الماضية».
ورغم كثرة الروايات التي أوردها الأصفهاني عن شيوع الغناء في مكة في العصرين الأموي والعباسي، إلا أننا نلحظ في الكثير من هذه الروايات أن المغنيين كانوا مقيدين بقيود الشرع والمجتمع الذين كان يرفضهم في كثير من الأحيان، وإن لم يفصح الأصفهاني دائما عن القيود إلا أنها موجودة وملحوظة.
وكمثال على ذلك نجد في نص إحدى الروايات الطويلة المدرجة في الكتاب، إشارة إلى اجتماع المغنيين، خارج النطاق العمراني، فهم يجتمعون في منزل بعيد يقع في قعيقعان - جبل من جبال مكة - وعند قدوم معبد من المدينة المنورة لمكة ليأخذ بعض الألحان عمن فيها من المغنيين زارهم ليلا، وكانوا حذرين في استقباله لعدم سابق معرفتهم به، إلا أنه طمأنهم أنه لن يصيبهم منه ما يكرهون، وأقام عندهم شهرا يأخذ منهم ويأخذون منه.
فقد شهد للأصفهاني بأنه له المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس والشعر والغناء.
والحقيقة أن ما قرره الدكتور إحسان عباس في مقدمة تحقيقه لكتاب الأغاني يعتبر الفيصل في ذلك فهو يقول «لا فرق لدى أبي الفرج بين الحكاية المروية للتسلية وبين الخبر التاريخي، ومن يريد أن يجعل كتاب الأغاني مصدرا لدراسته لا بد له أن يفيد منه بحذر شديد وتكرار نظر، وضرب الروايات ببعضها».
والواقع أن من يتتبع كتاب الأغاني، يجد فيه مادة غنية لواقع الحجاز الاجتماعي في العصرين الأموي والعباسي، خاصة لدى الطبقة المخملية من الأمراء والتجار والأعيان ومن يتبعهم في العادة من الشعراء والمطربين والمغنيين والموالي.
ويجد فيه وصفا لمجالس السمر ومجالس الحكم بين الناس وحفلات المكيين وملابسهم والمراكب التي يستخدمونها وآلات طربهم ورحلاتهم وعاداتهم وأخلاقهم وغير ذلك، مما يشكل مادة علمية، لم يخصها المؤلف بالذكر وإنما جاءت عرضا ضمن رواياته التي يسترسل فيها، مما يجعل المادة تستحق الدراسة والتحقيق، سواء بإثبات ما فيها أو نفيه ونقده، فالكتاب مليء بما لم يذكره المؤرخون الذين ركزوا على العمران والسياسة في ما كتبوه، وأغفلوا الكثير من الجوانب الاجتماعية الأخرى، بما فيها الجانب المترف للمجتمع.
أما بالنسبة لموضوع كتاب الأغاني فهو ينقل كل ما يخصها في عصره وما قبله، ومن خلال ذلك يؤكد أن فن الغناء العربي استلهم في كل الأقطار التي وصلها من الفن الحجازي أهم مقوماته، وأورد الأصفهاني كثيرا من الدلائل والشواهد على ذلك.
فنجد إشارات واضحة إلى شيوع قواعد الغناء وانتقالها من أهل الحجاز إلى بقية الأقطار العربية ومن ذلك قوله «كان ابن سريج أول من ضرب بعيدان الفرس الغناء العربي بمكة، وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة فأعجب أهل مكة غناؤهم، فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائي، فضرب به فكان أحذق الناس»، وابن سريج من موالي أهل مكة، وكان من أبرع الناس في الغناء حتى قيل عنه «كأنه خلق من كل قلب فهو يغني لكل إنسان ما يشتهي».
وقيل في غنائه «الغناء على ثلاثة أضراب، فضرب مله مطرب يحرك ويستخف، وضرب ثان له شجا ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة وكل هذا مجموع في غناء ابن سريج».
وقصد الشاعر جرير مكة لسماع ابن سريج، فغناه وبيده قضيب يوقع به وينكت فقال جرير «لله دركم يا أهل مكة ما أعطيتم، والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظا ونصيبا، فكيف ومع هذا بيت الله الحرام ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم، وكثرة فوائدكم».
ويؤكد الأصفهاني أن فن الغناء العربي نبع من الحجاز حيث يقول «أصل الغناء أربعة نفر: مكيان ومدنيان، فالمكيان ابن سريج وابن محرز، والمدنيان معبد ومالك». أما عن انتقال فن الغناء الحجازي من الحجاز إلى العراق وغيرها، أورد الأصفهاني الكثير من الأخبار في ذلك، فيقول مثلا «كان معبد علم جارية من جواري الحجاز الغناء، تدعى ظبية، وعنى بتخريجها، فاشتراها رجل من أهل العراق فأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان، وأخذ جواريه أكثر غنائها عنها»، إلى أن يقول «فزار صاحبها معبد في الأهواز بعد وفاتها وقال له: والله لا قصرت في جواريك هؤلاء، ولأجعلن لك في كل واحدة منهن خلفا من الماضية».
ورغم كثرة الروايات التي أوردها الأصفهاني عن شيوع الغناء في مكة في العصرين الأموي والعباسي، إلا أننا نلحظ في الكثير من هذه الروايات أن المغنيين كانوا مقيدين بقيود الشرع والمجتمع الذين كان يرفضهم في كثير من الأحيان، وإن لم يفصح الأصفهاني دائما عن القيود إلا أنها موجودة وملحوظة.
وكمثال على ذلك نجد في نص إحدى الروايات الطويلة المدرجة في الكتاب، إشارة إلى اجتماع المغنيين، خارج النطاق العمراني، فهم يجتمعون في منزل بعيد يقع في قعيقعان - جبل من جبال مكة - وعند قدوم معبد من المدينة المنورة لمكة ليأخذ بعض الألحان عمن فيها من المغنيين زارهم ليلا، وكانوا حذرين في استقباله لعدم سابق معرفتهم به، إلا أنه طمأنهم أنه لن يصيبهم منه ما يكرهون، وأقام عندهم شهرا يأخذ منهم ويأخذون منه.