هادي فقيهي

عزيزي المغفل الأكبر

الاثنين - 29 فبراير 2016

Mon - 29 Feb 2016

تحكي النكتة الكلاسيكية عن مستكشفين وجدا نفسيهما في مواجهة دب شرس، وبعد دقائق من محاولة الهرب، توقف أحدهما عن الركض ليصرخ فيه صاحبه: ماذا تفعل؟ فكان جوابه المنطقي: من المستحيل أن تسبق الدب، ليرد عليه قائلا: لا حاجة لأن أسبق الدب، أحتاج فقط إلى أن أسبقك أنت!

قبل عشر سنوات اكتشف البعض منا الثمن الرفيع لأن تصبح الشخص الأخير في ذلك السباق حين انهار سوق الأسهم السعودي في فبراير 2006 وهوت معه ممتلكات الكثيرين وأحلامهم في الثراء السريع. ما حدث كان فقاعة اقتصادية تسبب فيها الإقبال على أسهم الشركات ليس من أجل العوائد التي ستحققها هذه الشركات عبر القيمة التي تخلقها للمستهلكين كما يفترض أن يعبر عنها سعر السهم، وإنما من أجل البحث عن مستثمر آخر سيشتري ذلك السهم بسعر أعلى في عملية تعرف في المالية بالبحث عن «المغفل الأكبر». ففي السباق نحو الشراء برخيص والبيع بغال يتمنى كل أحد منا أن يجد مغفلا ليشتري منه سهما أو عقارا بأضعاف قيمته الحقيقية، ظنا منه أنه سيبيعه على مغفل ثالث ليكرر ذات الفعل وهي المخاطرة التي تحمل في جوهرها احتمالية أن تكون المشتري الأخير وتستحق لقب المغفل الأكبر.

تنص أبجديات الاقتصاد على أن السعر هو وسيط لنقل أصل أو سلعة من شخص إلى آخر تحدده القيمة الذاتية التي يحملها هذا الأصل وليس التمني بوجود مشتر سيدفع فيه أضعاف قيمته كما يحدث في حالة المضاربات التي يشهدها سوق الأسهم. فما الذي يدفع الناس لتحييد المنطق والضخ بممتلكاتهم في عملية معروف سلفا أنها ستفشل ظنا أنهم سيغادرون المركب قبل غرقه؟

في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وفشل النظرية الاقتصادية الرأسمالية في تفسير ما حدث، التفت الباحثون إلى علم النفس من أجل الحصول على تفسيرات لدوافع تكون الفقاعات المالية وانفجارها، وكانت النتيجة الاهتمام بفرع بحثي جديد في إدارة الأعمال يسمى بالمالية السلوكية يعنى بدراسة سلوك المستثمرين وتحليل الدوافع التي تؤدي إلى تصرفهم بطريقة تخالف المنطق وتقلل من هوامش أرباحهم. ومن التفسيرات التي يقدمها هذا الفرع لفقاعات سوق الأسهم ما يلي:

1- المحاسبة الذهنية: قد تظن أن الحساب هو العملية التي يتفق على نتائجها جميع البشر حول العالم لأنها تتبع قوانين الرياضيات بصرامة فـ 1 + 1 = 2 أيا كان رأيك، ولكن الحساب الذي يتم في داخل أذهاننا يختلف عن الحساب الذي نجريه على الورق، لأنه يحتكم إلى مزاجنا ورغباتنا.

فرغم أن كل عملية شراء أو بيع يجب أن تحلل خطورتها بمعزل عن العمليات التي سبقتها إلا أننا نعمد إلى مزج الخسائر مع الأرباح لنمنح أنفسنا شعورا بأن تجارتنا كانت رابحة في المجمل. ونتيجة لهذا الخلل فإن تحقيق ربح مبدئي في سوق الأسهم يدفع المستثمرين إلى التهوين من مخاطر العمليات التي تلي هذا الربح، لأن أي خسارة قد تحدث لاحقا يمكن تغطيتها بالربح الذي تحقق، والدفع بأسعار الأسهم إلى مستويات مبالغ فيها سرعان ما تنهار. كما أن هذا المزج يجعل الناس أكثر قابلية للمخاطرة إذا كان بمقدورهم تكرار هذه المخاطرة أكثر من مرة كما يحدث في سوق الأسهم، لأن عملية التكرار رغم أنها لا تقلل أبدا من الخطر إلا أنها تمنح المستثمرين فرصة لتحقيق بعض الأرباح التي تنسيهم حقيقة خسارتهم. وهذه الظاهرة يمكن رصدها بوضوح في صالات المقامرة، حيث تمنح المقامرين فرصة لتكرار ذات الرهان مرة وأخرى لأنهم يعلمون إيمان الناس بأن الحظ ينتظرهم في الفرصة الثانية.

2- الضوضاء المشتركة: تفترض النظرية التقليدية للمالية أن أخطاء المستثمرين يلغي بعضها بعضا، فأي خطأ في شراء السهم بسعر مرتفع سيقابله خطأ في بيعه بسعر منخفض مما يعيد السوق إلى توازنه. ولكن الحقيقة المثبتة نفسيا أن البشر يحللون المعلومات بذات النمط ويقعون في ذات الأخطاء مما يجعل تصرفاتهم تسلك اتجاها واحدا بدلا من أن تصحح بعضها. وأحد هذه الأخطاء المشتركة هو استخدام أفعال الآخرين كمعيار للحكم على صحة تصرف ما دون التحقق من دوافع هذا التصرف. فكما تختار المطعم الذي يزدحم عليه أكثر الناس، يختار المستثمرون خصوصا قليلي الخبرة شراء الأسهم التي تلفت انتباه الجميع ويستمعون إلى ذات المحللين بسبب الطمأنينة التي يخلقها سلوك الجماعة. ودافع هذا التصرف لا ينبع من محاولة تحقيق الربح وإنما من محاولة تجنب الندم، لأن تشارك الخسارة مع الآخرين يتركنا بشعور أفضل حتى لو انتهينا بثروة أقل.

3- محدودية الانتباه: من الظواهر التي تتكرر في سوق الأسهم الأمريكي كل عام أن الشركات التي قامت بالإعلان في مباراة «السوبر بول» والتي يشاهدها أكثر من 110 ملايين متابع، ترتفع أسهمها في اليوم الذي يلي المباراة. وهذا الارتفاع لا يمكن تفسيره بالنظرية التقليدية التي تنص على أن حركة الأسهم تتبع أي معلومات تتنبأ بعوائد الشركة المستقبلية، ولكن يمكن تفسيره بتقبل حقيقة أن الناس يملكون قدرا محدودا من الانتباه والطاقة الذهنية، ولا يمكنهم تحليل جميع الخيارات المتاحة في سوق الأسهم، فيلجؤون إلى الإشارات التي تجلب اسم شركة معينة إلى الأذهان حتى لو لم يكن هناك أي علاقة لهذه الإشارة بأداء السهم. وإحدى نتائج محدودية الانتباه ضخ المستثمرين لأموالهم في أي سهم يشتغل به المحللون أو تجذب حركته الانتباه مما يدفع به إلى مستويات مبالغ فيها.

والأمثلة على هذه التحيزات النفسية التي تخالف المنطق الاقتصادي تتجاوز القدرة على الرصد. وخلاصتها أن النجاح الاستثماري لا يعتمد على القراءة الصحيحة لأداء الشركات فحسب، بل يتضمن القدرة على تحليل سلوكيات المستثمرين وتقصي خطوات المغفل الأكبر!

[email protected]