سعد خالد العريفي

الأغنية السعودية

السبت - 19 أكتوبر 2019

Sat - 19 Oct 2019

يتحدث الموسيقار بليغ حمدي واصفا الأغنية السعودية فيقول «بدت الناس تحبها وتحس فيها، والطابع القومي بتاعها واضح ولها شخصية وأسلوبها وكلماتها واضحة».

للفن السعودي عبق خاص وتاريخ وارف تمتد ظلاله منذ بزغ فجر دولة المؤسس حتى يومنا هذا، مرت الأغنية السعودية بكثير من التطورات التي أهلتها للريادة خليجيا والبروز عربيا. كما مرت بعديد من المنعطفات و»عوامل التعرية» التي دفعت بها للخلف كباقي الموسيقى العربية.

أخذت الأم الحنون مصرا زمام المبادرة في مسيرة الفن السعودي بتأليف معزوفة السلام الملكي السعودي منتصف أربعينات القرن الماضي، حيث تعد أولى المشاركات الموسيقية الرسمية في شبه جزيرة العرب. مرورا بالفنان طارق عبدالحكيم أول مواطن سعودي يدرس الموسيقى - أيضا في مصر - منتصف الأربعينات، ارتحل طارق ممتهنا بيع الخضرة ليطرق أبواب وطنه مطلع الخمسينات «فنانا» ليبدأ عهد الفنانين السعوديين. انتشرت أغاني فنان السعودية الأول كالنار في الهشيم، أدت شهرته إلى تعاونات خارج إطار شبه الجزيرة فتعاون مع الفنانة فايزة أحمد أواخر الخمسينات حيث لحن لها الموسيقار أغنية (أسمر عبر).

ظلت الساحة تحت سيطرة طارق عبدالحكيم حتى أواخر الخمسينات، حيث أفرج القدر عن الفنان طلال مداح مجدد الأغنية السعودية. بدأ عصر الحداثة في حقبة الأغاني السعودية والانطلاقة الفعلية لها عندما قدم طلال أولى أغانيه (وردك يا زارع الورد) مطلع الستينات ميلادية. زرع طلال أول وردة في فياض الأغنية السعودية لتكون (وردك يا زارع الورد) أول أغنية «مكبلهة» في تاريخ الغناء السعودي بعد أن اتسمت أغاني الشارع السعودي بلحن واحد يمتد بطول الأغنية. كما تعد أول أغنية ذات طابع غرامي تستقطبها الإذاعة السعودية بعد أن حصرت على الأغاني الوطنية. أسس طلال الملقب بصوت الأرض أول فرقة سعودية العناصر، وسار وإياها في أروقة الشارع السعودي باحتضان المسرح التلفزي ليشكلوا بنغماتهم «فخر الصناعة السعودية». أدت الحوكمة الطلالية على الساحة الفنية فيما بعد إلى اعتزال الفنان طارق عبدالحكيم الغناء واعتناقه التلحين بدلا من ذلك.

أدت ثورة الأغاني المكبلهة في سيتنات القرن الماضي إلى فيض من المواهب اللحنية والشعرية والأصوات العذبة. تكون مزيج فريد من العمالقة أمثال الفنان فوزي محسون الذي التقت به كوكب الشرق أم كلثوم في جدة معربة عن إعجابها بألحانه ثم اتفقا على تعاون بينهما حالت الظروف دونه.

بزغ أيضا الأديب الحجازي لطفي زيني الذي رافق المداح ليكون كاتبا لأغانيه، شريكا في إنتاجاته ومديرا لأعماله. كما شهدت انطلاقة عديد من الفنانين إلى الوسط الفني أمثال محمد عبده وعبادي الجوهر، فيما خلت ممن يجاري المداح الذي تجذر بأعماله في أعماق محبيه فأصبح أصلا في كل مناسبة وطنية وأي احتفال سعودي. قدم الملحن طارق عبدالحكيم الفنان محمد عبده إلى الساحة الفنية منتصف الستينات ميلادية في محاولة لخلق رادع لشبح طلال مداح، حيث أنتج محمد عبده أغاني خلقت صدى، وأنبأت بفنان واعد، مثل (لنا الله) و(سكة التايهين).

شكلت حقبة السبعينات بعدها سيطرة من الجانب الطلالي، متمثلا في طلال مداح الصوت، والأمير بدر بن عبدالمحسن الكلمة، وسراج عمر اللحن، في ظل مقاومة من الجانب العبداوي متمثلا في صوت محمد عبده وكلمات إبراهيم خفاجي وألحان طارق عبدالحكيم. أنتج طلال في أوج عطائه أشهر أغاني المملكة (مقادير)، فيما تنوعت أعمال محمد فتغنى باللون السامري والقصائد النبطية، وتعاون مع مختلف الشعار والملحنين ليكتسب قاعدة جماهيرية ومعرفة مكثفة بطبيعة صوته.

في مطلع الثمانينات، عندما اشتدت الظروف على ابن عبده، وبدأت تتسع أطراف المنافسة، أبى الحظ إلا أن يتبسم له. بشكل مفاجئ ودون مقدمات أو أسباب واضحة انسحب طلال عن الساحة معتزلا الحفلات والإنتاج الفني! تفتحت الأبواب على مصراعيها أمام محمد، اعتلى صهوة جواده ثم مضى مخترقا الصفوف يرمي سهامه في كل حدب وصوب مدميا قلوب من تيموا به فيما بعد، شدا بأعمال خالدة من ألحانه وتعاونات مع آخرين ليقلد بلقب فنان العرب.

عاد صوت الأرض لأرض الفن منتصف الثمانينات فوجد الساحة متكأ على قمتها فنان العرب يشد الرحال بريشة عوده عابرا أقطار الأرض ملامسا أوبرا القاهرة ولندن. تمثلت نشوة الأغنية السعودية في تنافس «طلالي» «عبداوي» متكافئ الأطراف حيث تغلب الفئة الطلالية تارة، وتغلبها العبداوية تارة، فكانت أعظم الأعمال وأكثرها خلودا، كامنة في تلك الحقبة.

استمرت المنافسة بين قطبي الأغنية السعودية حتى في مطلع الألفية، وضع لها طلال حدا عندما لفظ آخر أنفاسه ممسكا عوده معتليا خشبات مسرح المفتاحة الذي تربع على عرشه ليترنح بعدها وهو يشدو متمتما بقلب أضناه التعب «الله يردك لي..»، تعثر من مقعده تحوطه أنظار محبيه ثم افترش الأرض بسلام في نهاية درامية لتخالف روحه الطاهرة آخر دعواه فتسمو إلى بارئها، مشكلة بذلك أعظم نهاية لفنان أحب فنه، ومنهية أعظم حقبة تنافسية شهدتها شبه الجزيرة امتدت لأربعة عقود.

أما النهاية الفنية ككل، فقد شهدتها التسعينات الميلادية، اندفعت أغاني الفيديو كليب ذات الألحان السريعة منكبة من كل حدب وصوب تزامنا مع تفشي القنوات الفضائية، والتي مهدت الطريق لأعمال ذات تكاليف إنتاجية منخفضة. تجرع الشارع متمثلا في مستمعيه مرارة الكليبات، إلا أنه استلذها. فاستفاضت الساحة أغان كان الصمت أولى بها منها، لدرجة أنها - الكليبات - كانت آخر مسمار في نعش عدد من الفنانين الذين كونوا قاعدة جماهيرية وتعلقت بهم الآمال ليحملوا راية الفن أمثال الفنان محمد عمر الذي أنتج أغنية فيديو كليب بعنوان «كرت أحمر» منتصف التسعينات فأشهر «كرتا أحمر» أخرجه من الساحة الفنية إلى يومنا هذا. على مثل ذلك انتهت الأغنية السعودية بلا عودة.

في ظل جفاء المحتوى السمعي، وانحلال القامات الأدبية، اضمحلت الأغنية السعودية تائهة في طيات النسيان. ذبلت أزهار زرعها المداح في أطلال الأغنية السعودية علما للقادمين من بعده فيشهدوا مجد الأولين من قبلهم، إلا أنهم أداروا ظهورهم لها غير مبالين بها فتركوها لتفتر وتذبل.

الأكثر قراءة