مرزوق تنباك

أهمية الغياب

الثلاثاء - 20 أغسطس 2019

Tue - 20 Aug 2019

للغياب في بعض الأحيان قيمة مثل قيمة الحضور، ومتعة مثل متعته، ولهذا احتاج الإنسان أن يجدد نشاطه ويغير من رتابة الحياة اليومية التي اعتاد عليها في غيابه عما كان يمارسه في مجمل أيام عامه حتى ينفك مما هو فيه من تواصل في العمل واستمرار يقضيه فيما يغلب على أيامه العادية، يخفف ملله ويعود إلى الاستمرار الدائم في العمل اليومي ويقتنص لحظات للتغيير تكون مريحة له، تجدد حيويته وتزيد نشاطه حتى فيما يغلب عليه من حب الأعمال التي يلتزم بها، ويرغب أن يبدع فيها.

ولأن طبيعة الأعمال في العصر الحديث تحولت من الحرفة العادية التي يحبها الإنسان، ويعيش أيامه لها دون أن يشعر بالملل منها مهما طال عمله فيها؛ إلى المهنة المقننة الرتيبة التي تفرض عليه وقتا محددا وعملا دائبا، والفرق بين الحالين أن الأولى حرفة يعود النجاح فيها أو الفشل للإنسان ذاته، أما الثانية فيعمل فيها ضمن مجموعة لصالح غيرهم بأجر يومي أو شهري يقدمه رب العمل، ولهذا كانت الإجازة والتمتع بها والبعد المؤقت عن مكان العمل الروتيني حاجة ملحة وضرورة قائمة، وعرفا أصبح سائدا في الوقت الحالي لدى الناس كافة، مما جعل أرباب العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص، يمنحون العاملين معهم وقتا معتبرا للإجازة، وحقا مشروعا يتمتع به جميع العاملين في هذين القطاعين.

والأهم من ذلك أن التمتع بالإجازة يلزم به العاملون حتى وإن لم يطالبوا به، فقد صار تقليدا، بل حقا مكتسبا باكتساب الوظيفة التي يؤديها الموظف أو العامل، كل في مجال عمله وتخصصه الذي يباشره ويعمل له، وحين ينقطع عنه لبعض الوقت ولو كان قصيرا يتجدد شوقه ويحن للعودة إليه، وإن وجد في الإجازة والانقطاع ما يشغله ويلهيه ويريحه من عناء الروتين اليومي الذي اعتاد عليه، حين يشعر أن الإجازة جددت حيويته وخففت متاعب العمل والملل الذي ربما يعانيه.

وأنا في الأسابيع الماضية تمتعت بهذا الحق، وانقطعت عن العمل الذي كنت فيه معكم نلتقي كل يوم أربعاء على صفحات هذه الجريدة، وكنت أنوي أن تكون الإجازة طويلة بطول السنوات الخمس التي لم أتمتع أثناءها بيوم واحد من الفراغ، والنية مبيتة عندما تقدمت لقيادة هذه الصحيفة الموقرة وللأصدقاء فيها أنني أضمر في نفسي غير ما أظهره وأكتم سرا ولا أعلنه، وهو إطالة الغياب والاستمرار في الانقطاع، لكي أنجز بعض ما أجلته وسوفت في عمله، رغم علمي أن أخطر ما يواجه المرء في مشاريعه هو التسويف والتأجيل، ومع هذا العلم وقعت في المحذور حتى وإن كنا نحفظ منذ الصغر (لا تؤجل عمل اليوم إلى غد) ونعلمه لغيرنا ونكرر القول به. ومع ذلك الحفظ للحكمة والترديد لها فقد أصبحت أغلب أعمالنا، نحن الذين نعلم هذا المثل، مؤجلة وقد تكون معطلة في بعض الأحيان.

وعلى كل حال لن أطيل عليكم في هذه النوايا السيئة التي كنت أنويها، فقد قضى عليها وجعلني أضرب صفحا عنها أن أحبابي ولاة أمر هذه الصحيفة حفظهم الله بقيادة صديق الجميع الأستاذ موفق النويصر، إذ قد يكونون أدركوا ما في نفسي وأرادوا إفساد ما أردت وتفويت ما نويت؛ أذنوا بالإجازة إذنا مشروطا، وهو ألا يحل محل مقالي وفي مكانه من صدر صحيفة مكة المكرمة غيري، وأن ملؤوا الفراغ أثناء غيابي بما سبق نشره من مقالاتي، وهذا ما وعدوا به وفعلوا، وهو فضل منهم لن أنساه وسأذكره دائما بمزيد من الامتنان والشكر لهم على ذلك، ولن تتصوروا غبطتي ومدى تأثري بفيض محبتهم وتقديرهم، وما أضافوه على شخصي الضعيف بعملهم الكريم من شعور جعلني لا أطيل الغياب عنكم وعنهم وعن محبوبتنا مكة الصحيفة ومكة المدينة المقدسة زادها الله تقديسا وتكريما، فعدت والعود أحمد.