فيصل الشمري

الابتعاث والتغيرات الشخصية

السبت - 22 يونيو 2019

Sat - 22 Jun 2019

يعد برنامج الابتعاث من أهم البرامج الحكومية بالمملكة، وأهم برامج التبادل الحضاري على الإطلاق بين الشرق الأوسط والحضارة الغربية. وصل عدد مبتعثي المملكة في وقت من الأوقات إلى ما يزيد على 152 ألف مبتعث ومبتعثة حول العالم وفي دول متعددة وثقافات مختلفة، من الصين أقصى الشرق إلى الولايات المتحدة أقصى الغرب.

ولا شك أن التواصل الحضاري والثقافي بين المجتمعات غربية كانت أم شرقية يكون له تأثير كبير على سلوك وفكر المبتعث أو المبتعثة، وفي كثير من الأحيان خاصة إذا كان التغير الفكري إيجابيا، يعود به المبتعث بالخير إلى أرض الوطن، ويسهم في نقل الخبرات والأفكار وتجارب ونمط الحياة من المجتمعات التي عايشها أثناء الدراسة إليه.

من تجربتي المتواضعة مع برنامج الابتعاث كطالب، كنت أدرس على حسابي الخاص ومنه إلى طالب مبتعث في مرحلتي البكالوريوس والماجستير ثم موظف بوزارة التعليم العالي بالملحقية الثقافية السعودية بأمريكا، فإن الطالب أو المبتعث يمر بمراحل عدة منذ بدء وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية بهدف الدراسة. وهي المراحل التي يتوقف عليها استمراره في الدراسة أو انقطاعه عنها وعودته إلى أرض الوطن.

وهذه المراحل تتشكل من معنى الاغتراب وحتميته، وتزداد عبئا عليه كلما أحس أنه بعيد عن أهله وبلاده، ولا يعوضه في المراحل الأولى عن ذلك إلا الصحبة الجيدة المفيدة والزملاء القدامى من أصحاب التجارب.

ولا شك أن أبرز تعريف لمعنى هذه المراحل يتلخص فيما يسمى بمراحل التكيف مع الغربة، وأولاها مرحلة الانبهار بالمجتمع والبيئة الجديدة المحيطة، والتي تعتبر في حد ذاتها أولى مراحل الاتصال والتواصل الحضاري والثقافي مع الحضارة الجديدة. ويبدأ المبتعث في هذه المرحلة المقارنة بين محيطه الجديد ومحيطة القديم، ويرى كل ما هو إيجابي في الدولة المضيفة وكل ما هو سلبي في مجتمعه الأصلي.

ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الصدمة الحضارية أو الثقافية cultural Shock. وهي مرحلة خطرة جدا على مبتعثي مرحلة البكلوريوس تحديدا، نظرا لصغر السن وقلة التجربة، فالمجتمع السعودي مجتمع يحتضن الشاب والشابة من الصغر ويتولى رعايتهما حتى الزواج. ويعتمد الشاب أو الشابة السعوديان في مجتمعهما المحلي بشكل كبير على رب وربة الأسرة. وهناك تواكلية شديدة، حيث يوجد في معظم المنازل عادة الخادمة والسائق وكل وسائل الرفاهية التي تدعو للاتكالية.

الحال ينعكس في مقر البعثة، حيث يجب على المبتعث الاعتماد الكامل على نفسه. ومن هنا تظهر الصدمة الحضارية، فيشعر الشاب أو الشابة أنه وحيد ضائع قلق لأن الوضع قد تغير والمعايير الاجتماعية التي اعتاد عليها قد تغيرت، مما يؤدي به إلى حالة من الخوف وعدم قبول الواقع الثقافي الجديد. وهذه المرحلة تدخل في إطار التكيف الجزئي إذا استطاع المبتعث أن يجتاز هذه المرحلة، حيث يصبح أمامه أحد خيارين، فإما أن يختار الطالب أسلوب التكيف وإما أن يرفض المجتمع الجديد الذي ابتعث إليه.

ويحاول الطالب أن يمسك العصا من المنتصف، وأن يلجأ إلى هذا التكيف الجزئي كحل، ويستمر في دراسته دون أن يغير موقفه، وبالتالي يتحصل على شهادته العلمية، لكنه في الوقت نفسه يكون قد فقد ميزة الاستفادة من حضارة وثقافة المجتمع الغربي الذي جاء إليه ليكتسب منه كثيرا من إيجابياته وتطوره العلمي والفكري.

أما الطالب المندمج اندماجا كاملا في المجتمع الجديد بكل سلبياته وإيجابياته فسوف يعاني من انفصام ثقافي بين معتقداته التي نشأ عليها على أرض الوطن وبين الحضارة الجديدة، وعادة ما تعاني هذه العينة من الطلاب كثيرا عند عودتها لأرض الوطن أو حتى في الغربة، خاصة أنه في المجتمع الجديد قد لا يتقبل المبتعث فيه تقبلا كاملا، فهو غريب في نظر البعض ووجوده في مقر البعثة موقت، وكذلك الحال عند العودة للمجتمع المحلي، فيشعر الأهل والأصدقاء بتغيره الكبير الذي طرأ على شخصيته، وربما استعلائه عليهم فيرفضونه.

ويعد التكيف الراشد من أهم أنواع التكيف للمبتعث الناجح الذي يصقل من شخصيته بشكل سليم، وتكون اتجاهاته وميوله وتميز شخصيته نتيجة لهذا التكيف الراشد الذي يحثه على اختيار الأصلح له والأخذ بالإيجابيات وترك السلبيات، والتمسك بالقيم والعادات الحسنة من كلا المجتمعين، ولا ينسى أو يتناسى مطلقا جذوره ومجتمعه القديم الذي نشأ فيه، ويستمر في احتفاظه وتمسكه بقيمه الدينية وتراثه المجيد.

ويعد تطوير الذات من أهم أهداف برنامج الابتعاث وفوائده على الصعيد الشخصي والصعيد الوطني أيضا، حيث إن تطوير المجتمع المحلي والارتقاء بأفراده يعدان أساسا لتطور الدولة، ومن ثم فهذا البرنامج يشكل خطوة كبيرة في منهج التطور الذي يقوم على رفع مستوى الأداء الحكومي والارتقاء بالقطاعين العام والخاص، ولن يتم ذلك أبدا دون رعاية ودراسة جادة لاحتياجات الوطن وسوق العمل فيه لتخصصات بعينها، فالاهتمام بمثل هذه الأمور ضروري للغاية في وضع الرجل المناسب في مكانه المناسب. وعلى كل مبتعث أن يسأل نفسه هذا السؤال: أكان الهدف هو نيل الشهادة فقط أم التأهل للعمل والانخراط فيه والتميز؟!