خالد العماري

قبيلة أفعل

الخميس - 17 يناير 2019

Thu - 17 Jan 2019

يبحث الإنسان عن «الأفضل» في الذوات والعلاقات بشكل مستمر وحيوي، بما يؤكد النزعة الفطرية نحو التفضيل باتجاه الكمالات الحسية والمعنوية التي لا أظن أنها تتخلف في الإنسان بشكل مطلق، بحيث يمكن أن نجد إنسانا سويا يركن للمفضول ويقعد عما هو أفضل منه دائما في كل شيء وعلى كل حال، هذا لا يكون ألبتة!

«قبيلة أفعل» هذه لا علاقة لها بتقسيم الناس إلى شعوب وقبائل، بل هي باختصار: أسماء التفضيل في لسان العرب، ومنها: أجمل وأقبح، وأحسن وأسوأ، وأكبر وأصغر، وأقرب وأبعد، وأقوى وأضعف، والتي وزنها اللغوي: «أفعل» فالفعل: «جَمُل» مضارعه يجمُلُ ومصدره جمالا واسم التفضيل منه «أجمل».

وإذا كانت اللغة قبائل وشعوبا فـ «أفعلُ» التفضيل قبيلٌ وحدها؛ إذ لا ينتسب لها إلا من كان من أبنائها، وهي عبارة عن اسم مشتق يدل على أن شيئين اشتركا في صفة، مع كون أحدهما زاد على الآخر فيها، وأسماء التفضيل نوعان: تفضيلُ مقارنة، وتفضيلٌ مطلق.

وتقع في كل فعل قابل للتفاوت، أما الأفعال التي لا تقبل التفاوت كغَرِق ومات، فلا مفاضلة فيهما فلا نقول «فلان أغرق من علان» أو «فلان أموت من علان» فهذه أمور لا وجه للتفضيل فيها.

ودلالة التفضيل هذه تُظهرُ مساحة الاختيار العقلي بين أقصى الطرفين في كل مقارنة حسية أو معنوية، فالذهن يقارن بين أمرين مشتبهين أو متشابهين طلبا للتمييز والترجيح، وبعد ذلك يحفز النفس للظفر بأعلى ما ترجح عنده على الوجه «الأكمل والأجمل والأحسن والأنفع والأصلح والأفضل والأكثر..» حتى ولو كان واقع الحال غير ذلك، وفي مقابل ذلك قد يرضى الإنسان بالسيئ فرارا من الأسوأ، وقد يقبل بالناقص والضار اتقاء للأنقص والأضر، وهذا أيضا لا يخرج عن البحث عن الأفضل والأحسن لكن في جانبه العدمي.

قبيلة أفعل تكشف لنا عن أمور عدة، فهي على المستوى الذهني تكشف لنا عن عقلية الاختيار بحيث يكون لدى الإنسان درجات متفاوتة ومساحة متجزئة متعددة للاختيار الذهني بين النقيضين والضدين، وعلى المستوى النفسي تكشف عن جبلة المفاضلة والميل الفطري للأفضل والأحسن بإطلاق؛ وذلك لأن الكمالات حقيقة وجودية ولها اتجاه واحد، بمعنى أن كل إنسان باحث بفطرته ومتجه بجبلته إلى نيل الأحسن من الأحوال والأشياء والمعاني والكمالات، فإن لم يجد رضي بالحسن منها، ثم المتكافئ ثم الأقل حسنا اتقاء واجتنابا للأسوأ على الإطلاق.

وهذا يدعونا إلى الابتعاد عن تعزيز فكرة المثالية المطلقة في النظرة للأشخاص أو الأفكار أو الأشياء، لأن الوعي من «قبيلة أفعل» التي تقتضي المقارنة في التصورات والنسبية في الأحكام، وليس من مصلحة الوعي في هذا الزمن أن يختزل في أشخاص أو حتى في مجموعات أوتيارات بعينها، بل الوعي فضاء متاح لكل من ينتمي لإرادة الوعي وقابليته العالية للتجديد، وله الحق في الانتماء إلى هذه القبيلة، وأن يكون أكثر وعيا من غيره. وبالمناسبة فهذا الموقف الفلسفي لا يلزم منه إهدار الموقف الأخلاقي.

الوعي لا بد أن يجري مجرى التفضيل، بل كل المعاني المتعلقة بالنفس هي كذلك، والعبرة ببحثنا المتجدد عن الوعي والتمثلات العقلية وعن تلبس النفس بكمالات المعاني والأحوال، والقدرة على تقييم الذات والآخر بشيء من الاعتدال، وإدراك أن الوعي متجزئ متعدد، فقد نكون أكثر وعيا في حال دون حال، وفي موضوع دون آخر، بل نحن متقلبون بين الغفلة والوعي على الدوام، والعبرة بما يغلب علينا من ذلك.

الوعي يقتضي منا التواضع والواقعية في الحكم على الأفكار والأشياء والأشخاص، وألا نفضل فكرة على أخرى، ولا حكما ولا رأيا، ولا شيئا على شيء، ولا شخصا على آخر تفضيلا مطلقا، بل نقارن بين الشيء وضده والشيء وقسيمه، والشيء ونظيره، ونعمل «التفضيل» في كل فهم أو حكم أو موقف ننسبه للوعي، أو نروم الوعي به.

ammarikh@