خالد العماري

البيان قبل الإيمان والقرآن!

الجمعة - 21 ديسمبر 2018

Fri - 21 Dec 2018

بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية، يمكن القول إن الجهود الفردية والمؤسساتية المحلية والعالمية لن تحرز تقدما يذكر في النهوض بالعربية ما لم يكن الأطفال في بؤرة الاهتمام اللغوي، ليس فقط في حظهم من الفعاليات والهاشتاقات المتعلقة بهذا الاحتفاء، وإنما في وعينا بفلسفة اللغة وعلاقتها بمرحلة الطفولة، وفقه التنشئة اللغوية، والتجديد في طرائق اكتساب الأطفال للغة وتطورها ونموها، هذا في الشق النظري البحثي، ويقابله في الشق العملي الميداني العمل على المشاريع ذات الأولوية في سلم البناء الثقافي والاجتماعي، وربطها بتقنيات وأنماط التعلم المعاصرة، والمساهمة في حضورها على المستوى العالمي.

لا نقلل من قيمة الاحتفاء، بل هو مظهر حضاري جميل ومبهج، وفيه فرصة ليتواصل العالم بالعربية ولو بشكل رمزي، عبر كلمات وصور وشعارات، ولكن نقول بأن العالم سيفرح باللغة العربية، لأنها دليل على الثراء والتنوع والاختلاف الكوني، ولأنها تمثل تاريخا وثقافة ودولا وأقاليم، ولكن سيسألنا عن لغة أطفالنا بشكل فردي واجتماعي، وقد سئل الكثير منا، عن طلاقة أطفاله في التحدث بالعربية، وعن قدرتهم على التعبير بها كتابة ومراسلة، وعن معلوماتهم عن تاريخ العربية والعرب، وعن حبهم وانتمائهم لها، وسيحاسبنا على التفريط في تدريس اللغة الأم كما في إعلان إنشيون المتعلق بالهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة لهذه الألفية! وسيقارن إنتاجنا الثقافي والإعلامي المتعلق بلغة وأدب الأطفال بالإنتاج العالمي في دراسات وتقارير وإحصاءات كاشفة ودورية ومتاحة للجميع.

ندرك جميعا حق الطفل في الرضاع، ولكن يغفل الكثير منا عن حق الطفل في الحفاظ على لغته الأم، بل وتنشئته تنشئة لغوية سليمة، نراعي فيها سمعه وبصره وفؤاده، فنستودع سمعه الأصوات والكلمات والتهويدات والتنغيمات العذبة الفطرية الرائعة، ونستودع بصره الوجوه الباسمة والصور الحسنة والألوان المرحة والإضاءات الهادئة، ونستودع قلبه الحب والرحمة والشفقة والحنان، وننأى به عن الصخب والنشاز والقبح والغضب والإهمال.

من المؤسف حقا أن يتم التفريط في لغة الطفل في المجتمع العربي والجغرافيا العربية، بأي مبرر كان، وتحت أي ظرف، في الوقت الذي نرى فيه إقبال العالم الأعجمي على العربية، كلغة ثانية في التعليم العالي، ولغة أساسية في الكتاتيب ودور القرآن!

أتمنى ألا نخلط بين مسألتين، الأولى التفريط في اللغة العربية الأم في مقابل العناية الفائقة باللغة الأجنبية أو جعلها أولا، والمسألة الثانية إمكانية تعلم لغتين أو أكثر في مرحلة الطفولة، والفاصل بينهما هو قدرة الطفل العربي وميله وانتماؤه، هل يفضل العربية في التعبير والتحرير والتواصل، أم يرى أن اللغة الأجنبية أقدر منها وأمتع وأسهل؟! مع ملاحظة أن ترك هذا الموضوع الجوهري لذائقة الطفل غير صحيح ألبتة؛ ولذا فالدول القوية والمتقدمة حسمت الموضوع واكتفت باللغة الأم في مرحلة رياض الأطفال، وربما التعلم العام، ومؤخرا أصبح هناك معيار دولي يقيس النسبة المئوية لتلاميذ التعليم الابتدائي الذين تكون لغتهم الأولى أو لغتهم الأم هي ذاتها لغة التدريس.

وفي ثقافتنا هناك مسألة لها علاقة بموضوعنا هذا، وهو أنه في زمن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، اختلفوا في أيهما أولى في تعليم الصغار ومن في حكمهم: هل نعلمهم القرآن أولا أم الإيمان؟ ويبدو أن جندب بن عبدالله استنكر تقديم تعليم القرآن على تعليم الإيمان، واعتبر هذا خلاف ما كان عليه الحال في العهد النبوي، فقال: كنا غلمانا حزاورة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتعلمنا الإيمان قبل القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا، وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان!

واليوم نقول لم يعد الإشكال في هذه الثنائية، القرآن أم الإيمان أولا، بل المشكلة أننا فرطنا فيما قبلهما، لقد فرطنا يا سادة في البيان، وفي مفتاح الفهم والإفهام للإيمان والقرآن على حد سواء!

ولذا فإن عمقنا العربي والإسلامي يحتم علينا ليس إعادة النظر وإعمال المنطق فحسب، بل تقديم مشاريع نوعية عالمية تنقذ الموقف، وتستلم الراية الثقافية في ميدانها الأهم، ميدان تعليم الطفولة المبكرة، وتعزيز دور الأم والمجتمع وأجهزة الثقافة والإعلام، في النهوض باللغة العربية.

دمتم سالمين، ودامت لغة الضاد والقرآن.