خالد العماري

هيستامين الوعي!

الخميس - 08 نوفمبر 2018

Thu - 08 Nov 2018

الهيستامين: هرمون حيوي مهم، له وظائف يؤديها لحماية الكائن الحي، مثله مثل باقي الهرمونات الأخرى، المشابهة له في التركيب الكيماوي، والوظائف الفسيولوجية.

ومن المعلوم أن هذا الهرمون في وضعه الطبيعي يحمي الجسم من الكائنات الغريبة، سواء كانت نافعة أم ضارة، فيقوم بالتفتيش والفلترة، فإذا اتضح أن هذا الكائن ضار استدعى الجنود لمحاربته، فتأتي كريات الدم البيضاء وتقوم بما يلزم، وإن اكتشف أنه غير ضار، سجل ذلك في ذاكرته التلقائية؛ حتى لا يتحسس منه في المرات المقبلة، وهذه وظيفة مهمة في حدها الطبيعي، لكن أحيانا يحدث نوع اضطراب في هرمون الهيستامين فيتحسس بشكل زائد، وتظهر على الإنسان أعراض الحساسية كالحكة والرشح والسعال وحمرة الجلد وغيرها، ويتحول الموقف من حماية إيجابية إلى ما يشبه الحالة المرضية التي يستوي التعامل فيها مع الأجسام الغريبة حتى لو كانت نافعة؛ ولذلك صنع الإنسان مضادات الهيستامين للحد من التحسس المرضي.

في المقابل نتساءل: هل هناك ما يشبه الهيستامين لكنه مرتبط بالنفس والذهن، بحيث يكون لدينا تحسس طبيعي، وآخر مرضي، من الأفكار والأحكام والمواقف والأحوال الغريبة والجديدة، بغض النظر عن حقيقة أمرها، نافعة كانت أم ضارة؟

يبدو أن علم وتاريخ الأفكار يرجحان أننا بالفعل أمام حالة بشرية، وظاهرة نفسية واجتماعية، تشبه ما يحدث لنا فسيولوجيا عند استقبال الأجسام الغريبة، فغالبا ما نتحسس من الأفكار والأشخاص والأشياء الغريبة عنا، وهذا التحسس سابق لمعرفتنا أو اختبارنا لهذا الغريب.

ويبدو أن هذا التحسس من الغريب الوارد على النفس والذهن، له حد طبيعي مقبول؛ حتى لا نكون وعاء لكل شيء غريب، سواء كان موافقا أم مخالفا، نافعا أم ضارا، وهو بهذا القدر تحسس نافع للوعي ابتداء لأنه يعطي فرصة معقولة للفحص الأولي، والتمييز المبدئي، والتفكير المنطقي، في الأشياء الجديدة والغريبة، ولكنه قطعا غير جيد، وربما يكون مرضيا في حال استمرار التحسس وزيادته وطغيانه، لدرجة اتخاذ حكم قطعي، وموقف حدي، وربما مزاج سيئ، وحالة رافضة، ومعاندة تفضي إلى سلب العقل فرصة الاختبار، والنفس فرصة الاختيار.

تحسسنا المفرط من الغريب حتى لو كان نافعا، لمجرد أنه غريب، لا ينتمي لنا، ولم يصدر عن ذواتنا ومسلماتنا، ومن نعرف، وماذا نعرف، هذا التحسس لا يمكن أن يفضي بنا إلى حالة واعية للتعامل مع الأفكار والأشخاص والأشياء، بل ربما نقع في التأثير على الآخرين لاتخاذ مواقف مضادة، وأحكام سلبية مما يجهلون ونجهل على الحقيقة.

ولذلك نجد العلماء يحرصون على التفريق بين الذات والموضوع، وبين الوعي الذاتي والوعي الموضوعي، ويدعون إلى تغليب النظر الموضوعي في الأفهام، والعدل في الأحكام، وإنصاف الآخرين، والاجتهاد في النظر إلى الأمور بقدر الطاقة والجهد، وإعطاء العقل فرصة ليس للتفكير فحسب، بل لإعادة التفكير، والتفكير بطرق شتى، ومن زوايا مختلفة، ونقد ومراجعة ومقارنة الأفكار على الدوام، حتى في مسألة الحق والحقيقة، فالحق مطلق، ومواقفنا منه نسبية، بل حتى في الوحي والدين، فالمحكم ظاهر بين، والمتشابه باطن وخفي؛ ولذا كان للعلماء الكبار مذهبان وقولان ورأيان، ولا يمكن أن يكون لهم ذلك إلا ولديهم مضادات للهيستامين الفكري والنفسي، يحجمون به تحسسهم من الجديد والغريب والمخالف، ويفحصون به القديم والمألف والموافق، بخلاف بعض العامة والمقلدة والمؤدلجين، فبلواهم من التحسس المرضي، وإن سموه ثباتا ودينا ومرجعية!

أوقف الأفكار الغريبة والجديدة على عتبة ذاتك، فإن اختبرتها بموضوعية، ووجدت أنها نافعة، فعود نفسك على التواضع للخلق، والميل للحق، ولا ترفض الغريب لمجرد غرابته، ولا البعيد لبعده، ولا الجديد لأنك لم تألفه، واقبل تحدي الوعي في كل مرة ترى غريبا، أو تسمع جديدا.

ammarikh@