خالد العماري

هائل ومأهول

الخميس - 04 أكتوبر 2018

Thu - 04 Oct 2018

مع تهيؤ فرص التواصل والتثاقف والتدافع الفكري بين الناس، عبر فضاءات وتقنيات وشبكات متاحة لجميع البشر بلا استثناء، وبصورة لم تكن معهودة من قبل، غاضت بها الخصوصية، وفاضت معها الفوضوية، وملأت الفضاء بالمعلومات والاختيارات، وظهر ذلك كله في شاشة صغيرة تلاعبها أصابع الأطفال والمراهقين، وتعجز عن التحكم بها أيدي الكبار والراشدين.

هذه يا سادة ليست مجرد تقنية، بل نسق ثقافي هائل ومأهول، يبدل المفاهيم، ويطور الأفكار، ويغير السلوك الفردي، والتموضع الجمعي، ويعاد على إيقاعه توزيع الأدوار، ورسم جغرافية الفعل والتأثير، ويبرز من خلاله فاعلون جدد، يشاطرون القدامى في خارطة المال والأعمال، والاقتصاد والسياسة، حتى ولو حكم عليهم بالتفاهة، وخلعت عليهم أثواب «الرويبضة»، وراهن البعض على ضعفهم وفشلهم!

ومع واقع كهذا، يتعامل البعض بسياسة العناد وعناد السياسة، ويختار آخرون استراتيجية المصادرة للتعامل مع كل ما هو مخالف، وربما الانسحاب السلبي من المشهد الذي لم يعد مألوفا، وأما الاستراتيجيون، وقراء المستقبل، والمعنيون بالفكر والثقافة والمعرفة الإنسانية، فتتفتح شهيتهم لمحاولة الفهم مرة أخرى، ويزدادون قناعة بضرورة خوض تجربة وعي جديدة؛ لعلهم أن يصلوا إلى مقاربات لفهم الظواهر، والتعامل مع المشكلات، وطرائق تبقي فكرهم حاضرا لمزيد من القدرة، وجهدهم حاذقا لمزيد من الخبرة.

وسيستمر المجتمع الإنساني في العطاء، أيا كان نوعه، وسيخبرنا الزمان في كل مرة بأن هناك سننا قاهرة، وقوانين صارمة، تحكم الفعل الإنساني، وتضبط حركة المجتمعات، كما سيكشف لنا عن سلوك جديد في كل مرة، وعرف حاكم في كل كرة، يبعث على التأمل والتساؤل، مع فناء فقيه الزمان، ومجتهد البلدان، في هذا النسق العالمي الضخم الذي يسمح فقط لتجارب ومحاولات الوعي المنسجمة معه والمتواضعة لإكراهاته.

لا بد أن نعيد النظر في كل تفسير وتجربة قائمة بعقلانية متأنية، وواقعية حكيمة، وباعتبار للطبائع عند حمل الناس على الشرائع، وبمراعاة لقواعد السياسة العامة في ظل فقه لموازين القوى، والتوازنات الدولية، وتقديم للمقاصد العامة من الأمن والاجتماع والسلام، ومصالح الإنسان والعمران، على الرؤى والأجندة الخاصة ببعض المكونات دون بعض.

لن يسعفنا كثيرا قياس الحاضر على الماضي، ولا التنبؤ بالشاهد على الغائب، ولا التموضعات الصلبة، ولا الرؤى المرسومة سلفا، فالتاريخ في حركة دؤوبة، وكم صدقت الأيام وكذب المتنبئون؟! وما كل غبار زوبعة، ولا كل ريح فيها صر، والعبرة بالطل والوابل والغيث والرحمة، والمعول على الهداة الوعاة، وقدرتهم على التجديد، وفتح الأنفس الآفاق من جديد، وعدم الثبات على موقف وجب فيه إعادة النظر؛ فالأمر بالثبات على الحق يدافعه تبين الحق في كل مرة.

ومع كل إكراه تاريخي يولد وعي جديد، ويطوي الزمان ما كتب له أن يطوي، ويبقى للناس ما يعينهم على المستقبل الأمثل، من الفهم الرشيد، والرأي السديد، والأخذ بالمحكم، والأمر الذي يجمعهم ولا يفرقهم في دين الله وسياسة الدنيا.

إن العالم كله يصطلي بهذا النسق الهائل، المأهول بالناس والأجناس، وليس أحد منهم اليوم في منأى عن حره وقره، وعن خيره وشره، غير أننا في بلاد الحرمين ومملكة الجود والعطاء والسلام أمام إرث مكاني وإنساني ضخم يوجب علينا أن نكون أساتذة وعي عالمي، ورسل سلام، ومعالم هدى في الواقع وفي هذا الفضاء على حد سواء، كيف لا ونحن في أرض هي مقصد إبراهيم الخليل، ومحج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وموئل العربية، ومهبط الوحي، ومأرز الإيمان، ومبعث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.

هل نعي هذا العمق العربي والإسلامي والإنساني؟ هل ندرك أبعاد هذه الجغرافيا، وأثر هذا التاريخ في قلوب العالمين؟ هل خطابنا الديني يرقى للتواصل مع أديان الدنيا ومذاهب الأرض؟ هل ترجمنا مضامين الرسالة الخاتمة، وروح الدين المرضي عنه عند ربنا عز وجل، وأخلاق الأمة الشاهدة على الناس؟ هل نحن مطمئنون لحضورنا الثقافي ودورنا الرسالي في هذا الفضاء؟ أم الأمر بحاجة لمراجعة الوعي بذلك أولا؟

ammarikh@