مقهى الخيالات

الجمعة - 17 أغسطس 2018

Fri - 17 Aug 2018

وفيما يكتظ مقهى الحي مساء بعد أن يسدل الغسق ستاره الناري على الأفق الغربي البعيد، ثم شاب في مقتبل الحلم، يضع سماعة الهاتف في أذنيه، يشير بيده طالبا فنجان آخر من القهوة؛ وكأنه يريد التخلص من هذا اليوم الثقيل، يا له من مراهق غريب يحمل عبئا على كاهله! وربما في قلبه ما هو أشد وطأة! لفتت نظري آثار الدموع الجافة على خديه، أخذت أسأل نفسي: كيف يجرؤ هذا العالم على أن يجتاح هذا الوجه البريء بكل هذه القسوة؟ سألته أن يعطيني (الولاعة)؛ ورأيتها مدخلا للولوج إلى عالمه.

‏-اجلس.. أحتاج إلى الحديث مع غريب؛ كي أخرج أمامه كل ما في داخلي، ويمضي بسلام.

‏-لقد شاهدتك من مكان وأثرت فضولي، وسألت نفسي: ما سر هذه الدموع التي تكبح جماحها؟

‏-أتعلم ماذا أتمنى؟

‏-ماذا؟!

‏-هل أستطيع مراسلة أبي وأمي في الجنة بشكل عاجل؟ أحتاجهما بقربي؛ لا أستطيع تحمل وحشية هذا العالم بكل ما يكتنزه من مواقف تأتي بغتة.

‏-تمالك نفسك.

ثم فاجأني بذهابه، وكأنه أحس بالندم أو خجل من كلامه! لقد نسي فنجان القهوة، وكذلك علبة السجائر، لم يجد إلا الهروب من كلماته النازفة المحقونة بالأسى، أدركت حينها أن الروح المهشمة هي من كانت تحادثني.

عدت إلى مكاني وحلقت في ملكوت الموسيقا؛ كي أنسى الموقف السابق، كنت مغمض العينين، وشعرت أن هناك من يناديني بنقر على كتفي، التفت وإذا برجل مسن يحمل بيده كتيبا بدا لي أنه رواية، حاول فتح موضوع عن نوع هاتفي الذي أعجب به وبحجم شاشته الكبيرة، قال: لا بد أنك تحادث به الفتيات.

قلت مبتسما: لا، ولكن لماذا تخيلت ذلك؟

‏-كم أحسد الشبان! فهم منطلقون في الحياة، يحلقون كالطيور؛ لا مسؤولية ترهقهم أو تكبلهم.

‏-ليس الكل يا عم.

قال - وهو يستعين بعكازه كي يقف: قبل أن أذهب أنصحك يا بني أن تعي أن الحب الحقيقي لا يفتر، وعليك أن تسقي حقلك وتعتني به باستمرار.

مضى المسن ووجدتني أسأل نفسي: ماذا يقصد؟ إلا أن عقلي تعذر عليه التفسير.

فاجأنا عامل المقهى بأن زوجته أنجبت له طفلة؛ فوزع الحلوى على رواد المقهى، فرح الجميع لفرحه، وشاركوه سعادته بالتهنئة والتبريك والدعاء، باستثناء ذلك المجنون الذي لا يملك في الحياة شروى نقير كعادته يرفض الجلوس، لقد اعتاد أن يأتي للمقهى يشرب القهوة مجانا، ويتنقل بين الموائد على كافة الجالسين بالمقهى؛ كي يتسول السجائر.

يقال إنه لم يكن على هذا النحو المزري من درجات الجنون؛ من حيث الشكل المتسخ، والشعر الأشعث، وإن هذا الجنون أصابه منذ طفولته؛ بسبب رؤيته لعملية ختان بطريقة بدائية شبه وحشية من قبل امرأة في القرية التي يعيش فيها؛ مما تسبب له بنوبات جنونية، كانت تأتي مرة أو مرتين في الأسبوع، ثم ازدادت لتصبح يوميا، وربما أكثر من نوبة في اليوم الواحد، وذات ليلة وضع شقيقته الرضيعة في فرن المنزل فماتت حرقا؛ فانهالت عليه عائلته ضربا بالعصي أمام أعين أهالي القرية؛ مما زاده جنونا على جنون.

‏نسيت الحديث عن أهم رواد المقهى، صحيح أنه لا يأتي دائما لكونه يصطحب الركاب للمناطق البعيدة، ويجني من وراء ذلك المال، كان بمنتصف الثلاثينيات، يرتدي ملابس شتوية غير مكوية، ونادرا ما يغيرها، ودائما يكون ملثما، يحمل بيده هاتفا قديما، يفضل القهوة المرة، ويعشق الشاي قليل السكر، يجلس طوال الوقت محدقا بسقف المقهى، يتحسس شعر شاربه، يبدو قلقا ومتوترا دائما، تراه يلتفت يمينا ويسارا أكثر من مرة في الدقيقة الواحدة، لقد كان يقضي جل وقته يتأمل سقف المقهى، فتسحبه النفس اللوامة نحو ذلك الموعد في تلك الليلة الممطرة؛ فما تزال رائحة العشب المبلل تعيده للوراء لصوت البوم، وخربشة القطط بردهات المكان المهجور، وعواء الكلاب السائبة التي يعج بها ذلك الموضع، لقد كان يتذكر تفاصيل الخطيئة كاملة، الشيء الوحيد الذي لا ينساه الرقصة التي كان يقوم بها تحت رذاذ صنبور الاستحمام، لقد كان يحتفل بالخطيئة الأولى في حياته.

وذات هزيع من الليل، وفي لحظة فاصلة سقطت الساعة المعلقة بالمقهى، وتوقفت العقارب عن الدوران؛ حيث اقتحم شقيق عشيقته المقهى، وبيده سيف حاد، ضرب به عنق الثلاثيني ضربة أطاحت برأسه، انتثرت قطرات الدم، ورشقت ثياب الجميع. لأول مرة أشاهد رأسا بشريا بلا جسد، وجسدا بلا رأس، وذعرا بلا حدود، وفي تلك اللحظة أعادت بقع الدم المنتشرة في المكان الذكريات الدامية لذلك المجنون، كان يتذكر رائحة الدم ومشرط الطبيبة الشعبية التي كانت تهدده بسخرية لاذعة - بالتخلص من ذكورته- وهي تلوح له أمام ناظره وبيدها المشرط إذا حاول اللعب مع الفتيات الصغيرات، أو حاول إخافتهن.

الشاب اليتيم الذي تركني ورحل أدرك متأخرا معنى أن يستيقظ ولا يجد الشجرة التي نام تحتها، أدرك سخافة ألعاب التبرعات بالميتم، وأدرك - أيضا - سفالة العيد، ‏بكل ما يحمله من عبارات حقيرة يتبادلونها فيما بينهم ويلقونها في وجهه، ولا تحرك شعرة واحدة في رأسه.

‏المسن الذي لاحظ جريمة المقهى عادت به ذاكرته للوراء، لأيام صباه، لعجزه في تلك الليلة أمام إعجاب أحدهم بزوجته التي استخدمها قربانا كي يصعد السلم، عادت به للعالم الآخر الذي كان يستفز شرقيته، ودلف إليه بقناعات مزيفة، وبروح هشة قادته للجحيم، لقد جعلته ينتعل أحذية الندم، وقبعة تحتها العمر الذي مضى، ونظارة أخفت عمن حوله معنى العجز الحقيقي، وذاكرة عصية حد اللعنة، وعقاقير تأبى أن تنسيه أصوات المغامرة العاطفية بين العصفورين في القفص، لقد كان يبارك المغامرة بإعطائهما القمح، لم يستطع تحمل وجه أبيه المسكين الذي مات من وجوه الناس، وعبارات السباب التي يسوقونها لابنه ولمجده الأدبي الذي يتداعى مستقرا في الحضيض، فما يزال يذكر مكالمة والدته الأخيرة، وتلعثمها من شدة بكائها، لم تستطع المكلومة دفع كلمة واحدة من كلام نساء القرية عنه، فهل باستطاعته أن يتحمل ذاكرته، أم تكون مروحة السقف آخر عهده بهذا الجحيم؟

‏خطوات النادل أطفأت بنات أفكاري، دنا نحوي ومبتغاه إغلاق المقهى وأخذ حساب القهوة التي بقيت مثلما وضعها، لحظني أثناء الكتابة على حاسوبي، وعلمت منه أنني كنت أضغط بيدي أزرار الحاسوب الشخصي، وهو نافد من (المدخرة) طيلة الساعات التي أكتب فيها، فكرة عبثية - أليس كذلك؟ أيها القراء.