ضريبة الجوار

الجمعة - 29 يونيو 2018

Fri - 29 Jun 2018

منذ سنوات عدة وقضية مكبرات أصوات المساجد تطرح على طاولة النقاش، وتكتب حولها المقالات وتنتشر الفتاوى وتكثر الشكاوى، ورغم أن الفقهاء أفتوا بمنع استعمال المكبرات الخارجية في غير الأذان، والاقتصار على الداخلية عند الصلاة والخطب وغيرها، لكننا لا نزال نجد كثيرا من المساجد تخالف ذلك، ولا نجد حلولا فعلية تحد من المشكلة التي يظن البعض أنها مقتصرة على شهر رمضان، في حين أنها موجودة طيلة شهور العام، ولكنها في رمضان تبدو أكثر إلحاحا. ولو نظرنا للمسألة من ناحية فقهية، فإن الفقهاء قديما وحديثا اتفقوا على عدم مشروعية إخراج الصوت في القراءة سواء كان ذلك في الصلوات الخمس أو في رمضان، واعتبروا ذلك من الأذى المحرم، بدليل قوله تعالى «والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا»، فالأذى المذكور في الآية يشمل جميع ما يتأذى منه المسلم قولا أو فعلا، وهو داخل في عموم الآية الكريمة.

واستدلوا أيضا بنهي النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه حين خرج وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة، فقال «كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن».

وهذا الرأي هو الموافق لروح الشريعة ومقاصدها، فالذي جاء الشرع بإعلانه هو الأذان لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وما عداه فلم يأمر به. بل أمر سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام بعدم الجهر بقراءة القرآن في الصلاة وهو يؤم المسلمين، فقال تعالى «ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا». الإسراء 110. لأن المشركين كانوا يشتمون القرآن. فالأحرى بأئمتنا الامتثال لهذا الخطاب، كي لا نوقع الناس في الإثم ونجعلهم ربما يشتمون الأئمة الذين لا يراعون آداب القراءة، ويحولون بينهم وبين ربهم.

وكما هو معلوم عند العلماء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمفسدة هنا لا تخفى، ففي البيوت النساء وكبار السن والمرضى، أو من يرغبون بالصلاة في بيوتهم، وهم بلا شك أكبر عددا ممن هم في المساجد، وفي المجاهرة بالصلوات إضرار بهم، فتتداخل أصوات المساجد فتشوش على المصلين، أو تتداخل مع قراءة المصلي في بيته، فلا يخشع قلبه، ولا تطمئن جوارحه، وتلتبس عليه صلاته، فلا يدري كم صلى، ثم لا يكاد ينهي صلاته دون سجدتي سهو!

وقد عايشت هذه المسألة طويلا، حيث كان مسكني بجانب مسجد كبير يغبطنا عليه الناس، تقام فيه الدروس العلمية والمحاضرات على مدار الأسبوع، وكان السماعات الخارجية مرتفعة دائما، فكنت أسمع الصلوات السرية والجهرية وكل ما يذاع في المسجد، كأنه يقام في بيتي، وبالتأكيد كان ذلك مرهقا للعقل، مصدعا للرأس، ومستفزا للأعصاب، ولا أظن إنسانا يطيق احتماله وكان ذلك يؤثر على كافة نشاطاتي وأعمالي اليومية.

ولكم أن تتخيلوا هذه المعاناة إذا تزامنت مع رمضان، فلا نهنأ بعبادتنا في مواسم العبادة، ونفقد روحانية رمضان وهدوءه! ولأن الأمر تجاوز حدود السيطرة، انتقلنا لبيت آخر، واخترنا حيا جديدا، به القليل من المساجد التي لا تزال تحت الإنشاء، فلم نكمل عدة أشهر حتى اكتمل بناؤها وارتفعت المآذن وتكررت المعاناة ذاتها، ولكن بصورة أشد، فأصوات المكبرات فوق قدرة الأذن البشرية على الاحتمال، وعند الأذان تتداخل الأصوات ويتنافس المؤذنون في إظهار ملكاتهم الصوتية، فيصرخون بالأذان ولا يستشعرون معانيه، ومعظمهم أعاجم لا يحسنون العربية، ويقرؤون القرآن بلحن جلي، فيلفظون الصاد سينا، والطاء تاء، والضاد دالا، ويتلونه للأسف بصوت ناشز!

قدر لي أن أقضي رمضان هذا العام في بلدة إسلامية نسمع فيها أصوات الأذان، ولا نسمع الصلاة، مع كثرة المساجد وتقاربها، وبالطبع وجدت الفارق الكبير بين حالنا وحالهم، واستطعت أخيرا أن أصلي دون أن يحال بيني وبين ربي. فالمأمول من وزارة الشؤون الإسلامية التشديد على هذا الأمر ومراقبة مكبرات المساجد والعناية باختيار الأئمة والمؤذنين بصفة مستمرة، لنصلي صلاة خاشعة في رمضان وفي غير رمضان.