للخصام آداب..الاعتراف بالخطأ وجرأة الاعتذار

اجتمع الصحابة في مجلس لم يكن فيه معهم الرسول الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وكان في المجلس خالد بن الوليد، وعبدالرحمن بن عوف، وبلال بن رباح، وأبوذر الغفاري.. رضى الله عنهم أجمعين. وطاف بهم الحديث من أمرٍ إلى أمر، والحديث ذو شجون، ومن شأنٍ إلى شأن.. حتى تكلم أبوذر بكلمة اقتراح، وقال: أنا أقترح في الجيش أن يُفعلَ به كذا وكذا، وكأنه كان يتحدث عن بعض الأمور التنظيمية حول ترتيب الجيش المسلم. فقال بلال: لا.. هذا الاقتراح خطأ. فقال أبوذر: حتى أنت يا ابن السوداء تخطّئني؟!!

اجتمع الصحابة في مجلس لم يكن فيه معهم الرسول الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وكان في المجلس خالد بن الوليد، وعبدالرحمن بن عوف، وبلال بن رباح، وأبوذر الغفاري.. رضى الله عنهم أجمعين. وطاف بهم الحديث من أمرٍ إلى أمر، والحديث ذو شجون، ومن شأنٍ إلى شأن.. حتى تكلم أبوذر بكلمة اقتراح، وقال: أنا أقترح في الجيش أن يُفعلَ به كذا وكذا، وكأنه كان يتحدث عن بعض الأمور التنظيمية حول ترتيب الجيش المسلم. فقال بلال: لا.. هذا الاقتراح خطأ. فقال أبوذر: حتى أنت يا ابن السوداء تخطّئني؟!!

الأحد - 25 أكتوبر 2015

Sun - 25 Oct 2015



اجتمع الصحابة في مجلس لم يكن فيه معهم الرسول الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وكان في المجلس خالد بن الوليد، وعبدالرحمن بن عوف، وبلال بن رباح، وأبوذر الغفاري.. رضى الله عنهم أجمعين. وطاف بهم الحديث من أمرٍ إلى أمر، والحديث ذو شجون، ومن شأنٍ إلى شأن.. حتى تكلم أبوذر بكلمة اقتراح، وقال: أنا أقترح في الجيش أن يُفعلَ به كذا وكذا، وكأنه كان يتحدث عن بعض الأمور التنظيمية حول ترتيب الجيش المسلم. فقال بلال: لا.. هذا الاقتراح خطأ. فقال أبوذر: حتى أنت يا ابن السوداء تخطّئني؟!!

فما كان من سيدنا بلال إلاّ أن قام والدهشة والأسف يتملكانه.. وقال: والله لأرفعنك لرسول الله عليه الصلاة والسلام.. واندفع ماضيا إلى النبي، وقال حين وصل: يا رسول الله أما سمعت أبا ذر ماذا يقول فيَّ؟ قال النبي: ماذا يقول فيك؟ فحكى له بلال ما حدث، فتغير وجهه الشريف عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الناس أجمعين.. وأتى أبوذر وقد سمع الخبر، واندفع مسرعا إلى المسجد فقال: يا رسول الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. قال النبي: يا أبا ذر أعيرّته بأمه؟!! إنك امرؤ فيك جاهلية، فبكى أبوذر رضى الله عنه، وأتى الرسول عليه الصلاة والسلام وجلس وقال: يا رسول الله استغفر لي.. سل الله لي المغفرة.. ثم خرج باكيا من المسجد.. وأقبل ابن رباح ماشيا.. فطرح أبوذر رأسه في طريق بلال، ووضع خده على التراب وقال: والله يا بلال لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك، أنت الكريم وأنا المهان. فأخذ بلال يبكي.. واقترب ورفع رأس أخيه عن الأرض ومسح خده من ترابه، وقبّل ذلك الخد، وقال: والله لا أطأ وجها سجد لله سجدة واحدة.. ثم قاما وتعانقا وتباكيا.

وبإمعان النظر -قارئي الكريم- في تشكيل الصحابة الأوائل لرسول الله وخاتم الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم، ندرك الحكمة الإلهية العميقة التي قضت أن يكون الحبشي بلال بن أبي رباح، والفارسي سلمان، والرومي صهيب، من هذه الصحبة التي وسعت أبا بكر وعليا رضى الله عنهما إلى جانب نفر من المستضعفين، الذين كان لهم في الإسلام العز والسند.

أولم يقل صلوات ربي وسلامه عليه: سلمانُ منا أهل البيت. لقد كان بيت النبوة أوسع وأشمل وأعمّ من بيت الأسرة.. فكبرت الدائرة وازداد المتحلقون حولها حتى عمّت بنورها المشارق والمغارب.

وإذا كان بلال يمثل الحبشة معقل المسيحية زمن النجاشي، الملك الذي حمى المهاجرين من المسلمين من عمالقة قريش ولم يسلمهم بعدما آمن أنهم ينهلون من ذات المعين الإيماني..، فقد كان صهيب وسلمان يمثلان أعظم قوتين يومها على وجه الأرض، الروم والفرس.. ليدلل المشهد أن هذا الدين عالمي النزعة، عربي اللهجة.. تحقيقا للمعجزة والتحدي.. فسكن بأمر الله كل روح ومهجة.

ولقد كان هذا التآلف بين الصحابة في البدء، عنوانا لما هو قادم من حب وتضحية وإيثار.

ألم نر كيف افتدى وأعتق ثاني اثنين إذ هما بالغار.. مؤذن الرسول بلالا؟! ألم نعلم كيف آثر الأنصار من أتاهم مهاجرا.. إنه الحب والتسامح أعظم الأركان النفسية التي ارتفع بها هذا الدين، إلى جانب أركانه الثابتة ودعائمه المكينة. فالدين هذا لم يجئ ليكون نصوصا وتشريعات، ولكنه أتى ليكون دليل الآخرة في الأولى.. عبارة وعمل.. محبة وأمل.. وتعامل تحكمه تقوى الله والرغبة فيما عنده. فما بالنا اليوم.. نخطئ ولا نعتذر، نتعدى على الآخرين ولا نتأسف، نعتدي ثم لا نهتدي..

الاعتذار يا سادة قيمة عظيمة في قاموس الأخلاق وثقافة راقية لا تنقص من قيمة المعتذر ولا الآسف.. فما نحن إلا بشر والخطأ من طبيعتنا، ولكننا يمكن أن نرقق هذه الطبيعة حين تقسو بعظمة التسامح وبروعة التواضع، وبرغبة المحبة في الله.

وإنه وإن كانت الفتن التي فتحت أبوابها علينا هذه الأيام، وطوفان الآراء والمذاهب، قد أوجدت للجدلِ أبوابا، وبنَت للعِناد أعتابا، فعلينا دائما أن نتذكر قول المصطفى الحبيب: «أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك الجدال، وإن كان مازحا».

ويقول الإمام الشافعي يرحمه الله: رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأيُ غيري خطأ يحتملُ الصواب.

ولننظر كيف ربّى رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه.. بلال لم يرد على أبي ذر، بل ذهب إلى القائد والزعيم الأمين يشكو إليه ما حدث.

ثم انظر إلى من أدبه ربه فأحسن تأديبه، ماذا قال لأبي ذر.. سأله مستنكرا: «أعيّرته بأمه.. إنك امرؤ فيك جاهلية..» لم يطلب منه وهو القادر على أمره أن يذهب فيقبل رأس بلال ويعتذر له، بل أراد أن يرى ويري الناس كيف ستؤثر الروح الإيمانية، والهديُ النبوي في تصرف أبي ذر.. لم يكن الرسول ليقول: اذهب ومرّغ خدّك في التراب.. ولكنه الضمير الذي هدى أبا ذر ليفعل ذلك.

ثم انظر روح التسامح التي سيطرت على بلال حين رأى من عيّره بأمه وخده على التراب.. بكى وقبل ذلك الخد، ولم يطأه كما طلب منه صاحبه، فالمؤمن لايطأ وجها سجد لله سجدة واحدة.

ولننظر اليوم وللأسف الشديد، ماذا يفعلُ المسلمون ببعضِهم، وكلهم وجوه سجدت لله سجدة واحدة على الأقل. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكما أن للحوار أدابا، كذلك للخصام آداب: أولها وأهمها الاعتراف بالخطأ وجرأة الاعتذار.. فما نحن إلا بشرٌ نخطئ بالليلِ والنهار، وتعالى خالقنا الحليم الكريم الغفار.