أعيدوا لي قريتي.. وخذوا مدينتكم

أيام الابتدائية في زمننا، قرأنا في كتاب (المطالعة) عن المدينة والفرق بينها وبين القرية التي كنا نعيش فيها، وعن شوارعها الفسيحة النظيفة وعمائرها الشاهقة ونظافة سكانها وانسياب حركة المرور فيها وأولادها المؤدبين.

أيام الابتدائية في زمننا، قرأنا في كتاب (المطالعة) عن المدينة والفرق بينها وبين القرية التي كنا نعيش فيها، وعن شوارعها الفسيحة النظيفة وعمائرها الشاهقة ونظافة سكانها وانسياب حركة المرور فيها وأولادها المؤدبين.

الجمعة - 20 مارس 2015

Fri - 20 Mar 2015



أيام الابتدائية في زمننا، قرأنا في كتاب (المطالعة) عن المدينة والفرق بينها وبين القرية التي كنا نعيش فيها، وعن شوارعها الفسيحة النظيفة وعمائرها الشاهقة ونظافة سكانها وانسياب حركة المرور فيها وأولادها المؤدبين.

وارتسمت هذه الصور الخلابة في مخيلتنا نحن الصغار، وبتنا نتوق لرؤية هذه المدينة، لنرى هذا الجمال وهذه الروعة وهذه النظافة وهؤلاء الناس.. وكيف يمشون في الطرقات وهم يبتسمون وكذلك تلك السيارات التي تقود نفسها بنفسها وتقف عند الإشارة بعد أن شربت -الأدب المروري- من أصحابها.

وظل هذا الحلم الجميل ينمو حتى استوى عوده، وعندما اشتد وكنا نعيش في مزرعة كبيرة، ضغطنا على الوالد لينقلنا إلى المدينة الحلم، فوافق مكرها وبعنا المزرعة والبقر والغنم والدجاج والحمار أيضا، أما الكلب فقدمناه هدية لجارنا رغم العداوة التي كانت بينهما. وانتقلنا إلى المدينة ونحن نكاد نطير من الفرح. ويا ليتنا لم ننتقل، ليتنا ظللنا في قريتنا ولم نر هذه المدينة الحلم. مضت تلك السنين.. والمدينة تزداد سوءا بعد سوء، وشوارعها الفسيحة تزدحم بالسيارات من جميع الأنواع.

أما الشوارع الصغيرة (السكك) التي بين المنازل فهي ملك للقطط والنفايات رغم الجهد الذي تبذله الأمانة والبلدية.

كنا في القرية نرى بعضنا البعض ونزور بعضنا، ونواسي بعضنا ونتفقد بعضنا، ومن أراد المساعدة ساعدناه، وإذا غاب الشخص عن منزله قمنا بواجبنا تجاه أهله، وإذا قدم شخص جديد وأصبح جارا لنا قمنا بواجبنا تجاهه. ولكن في المدينة لم نر جارنا إلا مرات قليلة، وأولاده ذوو القصات المرعبة والملابس المزركشة المقززة.

لقد غابت عن كثير من أهل المدينة، قيم كثيرة كانت قبل زمن قصير موجودة لكنها اندثرت وماتت ونسيها هذا الجيل الذي أتى وأصبح منتهى تفكير البعض منهم: جينز قصير أو طويل وقبعة وقصة غريبة وسيارة بداخلها أغان غربية تصيب المستمع بالصمم ووظيفة وكرسي ومكتب!

أين القيم التي تعلمناها في المدرسة وقرأناها في المطالعة؟ لماذا لم نجدها على الطبيعة كما يقولون؟ لقد أتعبتني المدينة ووددت لو أني لم أرها طيلة حياتي ولم أرغم والدي على الانتقال إليها، لقد ضاع كل شيء.

ضاعت المزرعة وثمنها في الإيجارات، وضاع الحمار والماعز، وربما أجهز جارنا على الكلب.

نعم ضاع كل شيء بسبب مغامرة طائشة وهي الانتقال إلى المدينة، فمن يتكرم ويعيد لي قريتي؟

كنت في السابق أخجل أن يقال عني (قروي أو بدوي)، أما الآن.. فأنا قروي وبدوي 100% ويشرفني هذا اللقب الكبير العظيم الذي لا يروق للكثير من قاطني المدينة، ولكنهم معذورون لأنهم لا يدركون المعنى السامي الذي ينطوي عليه.

ثم إذا كانت المدينة بهذا الشكل لا أريدها، فلا الصغير يحترم الكبير ولا الأخ يزور أخاه ولا الابن يجلس مع والده أو والدته أكثر من دقائق معدودة وعلى عجلة من أمره! وتجده يلتفت يمنة ويسرة يريد الفرار.. وإن مكث بضع دقائق انشغل بالواتس اب.

قست القلوب وتقطعت الأرحام وتلبدت الأحاسيس وتباعدت الأهداف وتوترت الأعصاب وطغت المصالح الشخصية على القيم الإنسانية النبيلة، وماتت الهمم وتلون الكلام وكثر النفاق والكذب وتغيرت الوجوه وصغرت الأحلام، وأصبح الميزان ميزان مادة، وتفرقت الأسر بسبب الخلافات التافهة والحسد والحقد والغيرة وبسبب أجهزة التلفاز والفيديو والفضائيات، وتجد أفراد العائلة منتشرين في الزوايا وفي الغرف لا يكلم أحدهم الآخر، فهم مشغولون.. حتى النوم لم نعد نصحو منه إلا بالقوة.

أرجوكم أعيدوا لي قريتي وهدوئي وطيبتي وقرويتي وسعادتي ومزرعتي، أتوسل إليكم.. ارحموا عزيز قوم ذل، فقد أتعبتني مدينتكم وطفشتني حضارتكم ولم أعد أرغب في البقاء بينكم، ولو أهديتم لي برج المملكة والفيصلية وطريق الملك فهد والجسر المعلق.

لقد اشتقت إلى الشاة والبعير، والحر والهجير، هناك في القرية أو في الصحراء لا يهم، حيث السكون والهدوء والطمأنينة والطبيعة.

أعرف أنه حلم وأعرف أيضا أنه حلم طويل جدا بلا نهاية. رجائي أن تصفحوا عني فقد قلت الحقيقة، فالله يحفظكم ويحفظ لكم مدينتكم.