يا تونس الخضراء جئتك عاشقا

عندما دُعِي الشاعر نزار قباني الذي لا أستحسنه إلى مهرجان الشعر العربي بمدينة القيروان بتونس عام 1980م. ألقى قصيدة قال في مطلعها:

عندما دُعِي الشاعر نزار قباني الذي لا أستحسنه إلى مهرجان الشعر العربي بمدينة القيروان بتونس عام 1980م. ألقى قصيدة قال في مطلعها:

الاثنين - 08 ديسمبر 2014

Mon - 08 Dec 2014



عندما دُعِي الشاعر نزار قباني الذي لا أستحسنه إلى مهرجان الشعر العربي بمدينة القيروان بتونس عام 1980م. ألقى قصيدة قال في مطلعها:

يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً وعلى جبيني وردة وكتابُ

ثم استرسل في قصيدته مهاجما ومتهكما في بعض أبياتها، لكنني عندما أذهب إلى تونس الخضراء أقول يا تونس الخضراء جئتك داعيا، جئتك سائحا، جئتك مادحا، جئتك عاشقا وعلى جبيني ومضة وكتاب، فتونس الخضراء هي تونس المجد تونس الكرم تونس الشعر تونس الأدب تونس الإسلام تونس الفن.

هي البلد الذي ولدت فيه أمي رحمها الله، وترعرعت في حيها الشهير (باب سويقة) الذي يعتبر صُرة تونس التاريخية، والذي يضم بين جنباته البيوت العربية القديمة، والبيت العربي التونسي مصمم على شكل مربع داخله مفتوح، تطل عليه السماء، يسمى (صحن الدار) أو فناء الدار، حيث تحيط به الغرف من كل جانب، يشبه البيت الدمشقي القديم، ويضم باب سويقة أسواقا تقليدية، ومقاهي على ضفافه، تعكس للزائر المهن المختلفة التي لا زالت تونس تشتهر بها، كما يضم نادي الترجي الرياضي الشهير.

وفي الحقيقة لقد تغير حال المدينة عمرانيا وتوسعت حاليا عما كانت عليه قبل ثمانين عاما، تلك الحقبة التي بدأت فيها والدتي نموها وحياتها في تلك البقعة الجميلة الساحرة في تونس، وعلى الرغم من أنني أزور تونس منذ أكثر من أربعين عاما، كنت أنزل فيها في بيوت أخوالي، في تلك المنطقة أو في حي (بادرو) الشهير القريب منها، إلا أنني وبعد انتقالهم للدار الآخرة رحمهم الله، أصبحت أرتاد فنادق شارع الحبيب بورقيبة مثل فندق أفريقيا، أو أسكن في منطقة سيدي بوسعيد وقمرت، وفي رحلتي الأخيرة قبل شهرين حجزت في فندق في منطقة (اللاك) أو البحيرة، وهي منطقة كانت قبل أربعين عاما منطقة سبخات مغمورة بالمياه، إلا أن الوجيه السعودي الشيخ صالح كامل اشتراها أو استثمرها، وحولها إلى منطقة من أرقى مناطق العاصمة التونسية، فقد ضمت كثيرا من السفارات والفنادق والمطاعم والفيلات الفخمة وأماكن الترفيه، تطل على خليج تونس الرائع، ولا يسكنها إلا رجال الأعمال وكبار التجار، كما لم ينس الشيخ صالح كامل أن يشيد فيها مركزا إسلاميا ثقافيا.

أما سيدي (بوسعيد) أو (سيدي بو) كما يطلق عليها الغربيون، فهي قرية على قمة جبل تتميز بتصميمها الإسلامي الأندلسي، تطل على البحر في منظر خلاب جميل، وقديما كانت بإحدى مقاهيها فرقة (المالولف) وهي فرقة تؤدي الموشحات الأندلسية، وكما هو معروف فتونس مشهورة بمبانيها البيضاء وأبوابها الخشبية المنقوشة بعناية فائقة بزخرفات إسلامية جميلة، يميزها عن غيرها من مدن البحر المتوسط أنها طليت باللون الأزرق السماوي الفاتح، وإذا ما مررت في أحيائها فإنك تشم رائحة الياسمين المشهورة بها تونس، أما شارع الحبيب بورقيبة فهو الشارع الرئيس بالعاصمة تونس، ويعتبر من أجمل شوارع العالم، بل ويتفوق (من وجهة نظري الشخصية) على شارع الشانزليزيه الباريسي الشهير، حيث تمتد الأشجار على جانبيه وفي وسطه بتنسيق فائق في الدقة، ويضم كثيرا من المحلات التجارية والفنادق والمقاهي، كما يوجد في بدايته من جهة منطقة (باب بحر) المطل على المدينة القديمة، تمثال (ابن خلدون) الذي يقف أمام إحدى الكنائس الموجودة في شارع بورقيبة، كما يتميز الشارع (بمقهى تونس أو كافي دي تونيس) و(مقهى باريس أو كافي دي باري)، وإذا ما كنت في مقهى تونسي، وأردت أن تجرب شرابا مميزا، فاطلب شراب الرمان المُرَكَّز المخلوط بالمشروب الغازي المسمى (بوقا) المصنع في تونس، الذي يشبه (السفن أب) فينتج عن ذلك الاختلاط ما يطلقون عليه (الرمان بالبوقا) أو (قرانادين أفك بوقا).

وتشتهر تونس بزراعة الزيتون، الذي يستخرج منه أرقى أنواع زيت الزيتون، التي تشتهر به مدينة سوسة، علما أنه يوجد أكثر من سبعين مليون شجرة زيتون في تونس، كما تشتهر تونس بفواكهها مثل (خوخ بوطبقة) و(الأجاص بوقدمة) والأول خوخ يأتي على شكل قرص دائري، أما (الأجاص) فهي فاكهة (الكمثرى) ومعنى (بوقدمة) أي أن الحبة الواحدة تؤكل من قضمة واحدة أو لقمة واحدة لصغر حجمها الذي لا يتجاوز ثلاثة سنتيمترات.

وتشتهر تونس بطبق الكسكسى الشهير مغاربيا، الذي يعد بالخضار واللحم أو السمك، ويوضع عليه (الهريسة) وهي معجون الفلفل الأحمر الحار جدا، وهناك طبق (البريك التونسي) وهو مثل البف أو السمبوسة المكية، لكنه أكبر حجما، مكون من مفروم اللحم والتونة والبيض الرائب، فعليك الحذر عندما تأكل البريك لئلا تسيل مكونات البيض على صدرك! أما إذا كنت مستعجلا فعليك بطبق (الهرجمة) أي المقادم أو الكوارع أو طبق (اللبلابي) وهو فتة البليلة أو ساندويتش (الكفتاجي)، وهذا يحتاج إلى شرح لا تتسع مساحة هذا المقال له، أما العنب التونسي ففيه طعم لا تجده إلا في تونس، خاصة ما يطلق عليه (المسكي) أي أنه يحتوي على رائحة المسك، وإذا ما طاب لك أن تشاهد الشواطئ فهي من أنظف وأنقى الشواطئ في العالم، لكن عليك أن تكون حذرا عندما تذهب للشواطئ كي لا تغرق في شبر ماء، ولأنني لا أجيد السباحة فأنا أرتاد الشواطئ! كما أن تصميم الفنادق يغلب عليه في كثير من الأحيان الطابع الأندلسي، الذي تعكسه مدينة (سيدي بوسعيد) و(مَرسَى القنطاوي) في مدينة سوسة.

أما اقتصاد تونس فيعتمد على الزراعة والسياحة التي تواجه ركودا كبيرا بعد الثورة التونسية، ويتصف الشعب التونسي بحسن التعامل وجمال الأدب ودماثة الخلق وكرم الضيافة، ويحترم التونسيون ويقدرون أهل الحرمين إذا ما حلوا في ديارهم، كما تشتهر تونس بجامعها وجامعتها الشهيرة (الزيتونة) أول جامعة في العالم الإسلامي، ويعتبر الجامع أقدم جامع في تونس بعد مسجد القيروان، ويرجح أن حسان بن النعمان هو من أمر ببنائه عام 79هـ، ثم قام عبيدالله بن الحبحاب بإتمام عمارته في 116هـ/ 736م. ولقد تخرج من هذه الجامعة المؤرخ ابن خلدون وابن عرفة، والطاهر بن عاشور مؤلف تفسير التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر، والشاعر التونسي أبو القاسم الشابي مؤلف (ديوان أغاني الحياة)، وفي مسجدها برز المصلح الجزائري ابن باديس، وغيرهم كثير من النخب التونسية، ويعتبر جامع الزيتونة والأزهر والقرويين من أقدم جامعات العالم.

وتشتهر تونس أيضا بمسجد عقبة بن نافع في مدينة القيروان أم جنوبها الصحراوي، فله سماته التي تميزه عن غيره، فهناك قرية اسمها (مطماطة) بنيت منازلها ومساكنها في حفر تحت الأرض، يأتيها السواح من جميع أنحاء العالم.

ومن جهة أخرى، فإنني ارتبط بتونس منذ طفولتي حيث أخذني إليها والدي بصحبة الوالدة رحمهما الله وأنا ابن ثلاث سنوات، ومن ذلك الحين وأنا أتردد على تونس لأشم رائحة والدتي التي ولدت بزنقة النفافتة بباب سويقة، ولأعيش عبق التاريخ العربي الإسلامي وبقايا الآثار البيزنطية والرومانية في قرطاج وأميلكار وسوسة والقيروان وغيرها.

وعليك أخي القارئ أن تعرف أن كلمة تونس جاءت من (تؤنس) أي أنك إذا كنت بها فإنك تأنس بها وتكون سعيدا معها وتجد الراحة والأنس فيها، وأنا هنا لم أعطها حقها كما يجب، لكنني تأثرت ببيت نزار قباني، فأحببت أن أشارك القارئ بإلقاء الضوء على مدينة تونس التي أرتبط بها قرابة وصداقة وسياحة وأدبا وثقافة، فهي المدينة التي ولدت بها أمي... إنها تونس الخضراء.