الإسلاميون والعمل السياسي.. أين الخلل؟
الأربعاء - 29 يناير 2014
Wed - 29 Jan 2014
تستفزك دعوةُ بعض مدَّعي الليبرالية إلى منع الإسلاميين من العمل السياسي، ويستفزك أكثر رفضُ غالبية الإسلاميين المنخرطين في العمل السياسي أيَّ نقدٍ مُوجَّهٍ إليهم، وتصويرُ إخفاقاتهم على أنها ناتجةٌ دائمًا وأبدًا عن مؤامرةٍ إقليمية، أو دولية ضدهم، ومع التسليم بوجود مؤامرات أحيانًا؛ وهي -على كل حال- من طبيعة العمل السياسي، إلا أن ثمة إخفاقًا لا يمكن إنكارُه صاحَبَ تجربة الإسلاميين في السلطة في مصر، وحرمهم من تسلم السلطة في الجزائر سابقًا، ويهدد تجربتهم في ليبيا وتونس اليوم، وسوريا غدًا، فأين يكمن الخلل الذي يؤدي إلى هذا الإخفاق؟
في اعتقادي أن الخلل بنيوي متجذر في عمق البناء الفكري والتنظيمي، ولا يمكن فهم هذا الخلل، وتجاوزه دون الرجوع إلى الزمن الذي تأسست فيه الحركة الإسلامية في العصر الحديث.
ففي بداية القرن العشرين كانت السلطة العثمانية تطرح نفسها حامية للدين ومعبرة عنه، لكنها ما لبثت أن سقطت ثم ألغيت الخلافة العثمانية، وقامت على أنقاضها دول قطرية تحت مظلة الاستعمار، مع استبعاد مكوِّن الدين في تنظيم الدولة، وهنا شعرت النخب المتدينة بفراغ هائل، فلأول مرة في التاريخ الإسلامي يخلو الفضاء الإسلامي من أمرين؛ الأمر الأول: وجود سلطة سياسية جامعة ينضوي تحتها المسلمون، والأمر الثاني: غياب المشروعية الدينية للحكومات الناشئة، ومحصل هذين الأمرين غيابُ حاكمية الخلافة الجامعة وغيابُ حاكمية الدين، ومن هنا برزت محاولات إعادة هاتين الحاكميتين.
ومن تلك المحاولات قيام حسن البنا بتأسيس جماعة (الإخوان المسلمون)؛ وهي الجماعة الأم لمجمل الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، ومن أبرز أهداف جماعة (الإخوان المسلمون) إعادة الخلافة الإسلامية؛ وإعادة سلطة الدين على المجتمع، ولا يمكن أن نفهم حركة الإخوان والحركات الإسلامية التي خرجت من عباءتها بمعزل عن هذين الهدفين، ولأنها نشأت في بدايات صعود اليسار فقد تأثرت به في شكلها التنظيمي الهرمي، والالتزام الحزبي، والرؤية (الشمولية)؛ فطرحت نفسها حركة شمولية تسعى لإصلاح (الدين وفهمه، والتربية والتعليم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع)، ما محصلة ذلك كله؟
محصلته أن الحركة الإسلامية محكومة بتلك الرؤية والأهداف منذ نشأتها إلى اليوم؛ هدفِ إعادة الخلافة، وهدفِ إعادة حاكمية الدين، والرؤية الشمولية في رؤيتها للإصلاح؛ ولكنْ ما علاقةُ هذه الرؤية والأهداف بالإخفاق الذي حصل لها، وما زال يحصل، وسيحصل مستقبلًا؟
لقد ساهم هدفها بإعادة الخلافة الإسلامية في تكوين نظرتها ونظرة منتسبيها إلى السلطات والنخب السياسية المخالفة لها على أنها سلطات ونخب طارئة، وغريبة على الأمة، وغير معبرة عن إرادتها، وأن الواقع السياسي برمته من صنع الجاهلية، ولا إصلاح إلا بالبديل الجذري لكل الواقع السياسي، ولهذا فهي تطرح نفسها على أنها بديل حضاري جذري يسعى لكنس الواقع السياسي بكل ما فيه من حكومات، وتيارات، ورموز، ومؤسسات لا تتفق معها، وهذا ما أثار ويثير الرعب لدى خصومها، ويجعلهم يتحدون في خصومتها؛ إذ لا يعقل أن يقف خصومها في المجال السياسي موقف المتفرج؛ وهم يرونها تسعى لإلغائهم الجذري من الواقع السياسي.
وساهم هدفُها بإعادة حاكمية الدين، أن طرحت نفسها على أنها ممثلة للدين، وكل خصومة معها هي خصومة للدين، وفرض عليها ذلك التعامل بالأدوات الدينية في الحقل السياسي، واستعارة قاموس (التضليل)، و(التكفير) للفرقاء السياسيين، ورفعت شعاراتها ورموزها السياسيين إلى مستوى التزكية الدينية، وجعلتهم فوق مستوى النقد، وفسرت إخفاقاتها السياسية بتفسيرات دينية كالابتلاء الرباني، والتمحيص الإلهي للصفوف، وهذا ما حصَّن زعماءها من أي مساءلة من المنتسبين للحركة نفسها في حالة الإخفاق، وجعل المختلفين معها يحاكمونها دينيًّا؛ لتصيد كل خطأ منها على أنه خيانة للدين، لإثبات استغلالها للدين في سبيل مصالحها.
وساهمت رؤيتها الشمولية للإصلاح في جعل مشروعها حالِـمًا لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، فضلا عن أن طرحها الشمولي في أهدافه يماثل الأنظمة الشمولية التي تسعى شعوبها للتخلص منها، وتناست أن عالم اليوم يرفض مفهوم (الدولة الشمولية)، وكل فكرة شمولية تريد أن تستبدل الدولة الشمولية بدولة تحمل فكرًا شموليًّا محكوم عليها بالفشل، إلا إذا اغتصبت السلطة، وفرضت أنموذجها الشمولي بالحديد والنار.
هذا هو واقع الحركات الإسلامية، ويجب عليها -إذا كانت تريد أن تساهم في إصلاح أوطانها سياسيًا- أن تعيد (هيكلة) تنظيماتها جذريًا؛ إذ لا يعقل أن تظل الرؤية والأهداف والتنظيم هي نفسها منذ تأسيس الحركة منذ قرن تقريبًا إلى اليوم، وإن لم تفعل فستظل تلك الحركات الإسلامية تدور في حلقة مفرغة؛ فهي حركات تسعى للهيمنة الشمولية وإلغاء الآخر في نظر خصومها، وهي حركات ذات أهداف ربانية، تدور المؤامرات ضدها، وكل إخفاق تقع فيه هو من صنع أعدائها، وابتلاء وتمحيص إلهي لرموزها في نظر منسوبيها ومؤيديها.