المجون والأخلاق عند المثقف العربي
ظاهرة المجون الثقافي عند الكتاب والأدباء العرب قديمة منذ عصر ما قبل الإسلام وما بعده، واشتهر بذلك عدد من أساطين الشعر والثقافة كامرئ القيس وطرفة بن العبد وبعض الصعاليك وعمر بن أبي ربيعة والأحوص والوليد بن يزيد وغالب الرياحي واليشكري ومطيع وحماد عجرد والراوية وابن أرطأة وابن الحكم وأبي نواس وعمر الخيام، وأعداد لا حصر لها في فترات متطاولة في التاريخ، لا داعي للتفصيل في ذلك.
ظاهرة المجون الثقافي عند الكتاب والأدباء العرب قديمة منذ عصر ما قبل الإسلام وما بعده، واشتهر بذلك عدد من أساطين الشعر والثقافة كامرئ القيس وطرفة بن العبد وبعض الصعاليك وعمر بن أبي ربيعة والأحوص والوليد بن يزيد وغالب الرياحي واليشكري ومطيع وحماد عجرد والراوية وابن أرطأة وابن الحكم وأبي نواس وعمر الخيام، وأعداد لا حصر لها في فترات متطاولة في التاريخ، لا داعي للتفصيل في ذلك.
الجمعة - 10 أكتوبر 2014
Fri - 10 Oct 2014
ظاهرة المجون الثقافي عند الكتاب والأدباء العرب قديمة منذ عصر ما قبل الإسلام وما بعده، واشتهر بذلك عدد من أساطين الشعر والثقافة كامرئ القيس وطرفة بن العبد وبعض الصعاليك وعمر بن أبي ربيعة والأحوص والوليد بن يزيد وغالب الرياحي واليشكري ومطيع وحماد عجرد والراوية وابن أرطأة وابن الحكم وأبي نواس وعمر الخيام، وأعداد لا حصر لها في فترات متطاولة في التاريخ، لا داعي للتفصيل في ذلك.
ومن هؤلاء المثقفين والأدباء والشعراء من قرن كتاباته بالإلحاد والتعدي على المقدس كالذين عرفوا بالزندقة أيام الأمويين والعباسيين، وانتشرت هذه الظاهرة بقوة في العصر الحديث من نافذتين كبيرتين:
النافذة الشرقية المتمثلة في المد الشيوعي الإلحادي والإباحي.
والنافذة الغربية وهي المتمثلة في المد اللا ديني الإباحي وهو لا يزال إلى الآن على أشده.
المثقف العربي والكاتب والشاعر، تحكمه طبيعة الفخر القديمة وإن كانت بطريقة أكثر عصرية وتمدنا، والفخر يداخله الرياء والسمعة الثقافية والاستعلاء والمكانة، وعندما وجد المثقف العربي أن الأسلوب التقليدي لم يعد رائجا وأصبح قضية متكررة باردة جنح إلى جهتين، إما إلى طريقة الإثارة الشعورية عند القارئ العربي بالخروج عن المألوف في تناول القضايا العامة الدينية والاجتماعية، وإما إلى طريقة تشبه طريقة الشطح الصوفي في طريقة الرمزية والإغراب، ليشعر القارئ والمتلقي بأنه يتنفس بصعوبة من خلال هذا الشطح لشدة احتشاد المعاني بعيدة الغور عالية المطالب، مما يجعل المتلقي في حالة من الانجذاب لما يكتب ويقال.
وفي بعض ما اكتشفته من تأملات في الإلحاد، أنه مسألة نفسية يجد صاحبها لذة عارمة تملأ النفس نشوة عندما يجد نفسه حديث الآخرين.
وكثير من الكتاب والمثقفين العرب يبطنون غير ما يظهرون، فيظهر أحدهم الإلحاد وليس بملحد، ويتماجن وليس من طبيعته المجون! بل وجدنا كثيرا منهم غاية في الأدب والمروءة، وكل ذلك يعد من الموضات الثقافية في العصر الحديث كان قد ظهر يوما باسم الشيوعية، وهو الآن ظاهر باسم الليبرالية وغيرها.
التقيت قبل عدد من السنين بأحد الكتاب المشهورين في لقاء عمل، وحين رأى مظهري يشي بالتدين، أراد أن يمارس هذا الأسلوب معي فقال وهو يدير الحديث بطريقته: نحن يجب أن نتعامل مع محمد (يقصد النبي صلى الله عليه وسلم) كقائد عربي وزعيم عظيم، فرددت عليه بلطف: معنى ذلك أنك ستفتح باب الجرأة عليه وتضعه على طاولة التشريح وتنتقده كما تحب، فاضطر إلى إغلاق الموضوع. ثم شاء الله أن أجتمع أنا وهو في سيارتي حيث أوصلته يوما إلى منزله، فدار بيني وبينه حديث عن الله والرسول، فكان شخصا آخر غير الذي يظهر للناس أو بالأصح يتظاهر، ولا هو ملحد ولا يحزنون.
قال لي أحد الأدباء المشهورين والمصنفين بالعلمانية يوما: نحن السعوديين لا يوجد بيننا علمانيون، والذين يدعون ذلك إنما يدعونه للشهرة والإثارة.
وهذا لا يجعلنا ننكر موجة الإلحاد المعاصرة إلا أن المثقف الرصين لا يقع في الإلحاد، وإنما يقع في تأويلات وملابسات وشبهات في المفاهيم لا بقصد الإلحاد والمروق.
ولكن ظاهرة المجون الثقافي لا ينفك عنها المجتمع العربي المعاصر، لأن المجون أو التماجن هو صبغة مطلوبة في ذهن المثقف العربي نتيجة الانجذاب إلى الآخر، ولذلك تجد المثقف في أغلب المجتمعات الثقافية يخجل أن يظهر بمظهر المحافظ أو المتدين، بل يخجل أن يصلي أمام أقرانه أو أن ينتقد شيئا من منطلق الدين، وما ذلك إلا لطبيعة الارتباط بين المجون والثقافة في واقعنا العربي.
وما لا يعلمه هذا النوع من المثقفين أن الأخلاق في حياة الكاتب والمثقف أكثر أثرا وأشد دفعا نحو العطاء والتجديد على مستوى الثقافة العربية العالمية، وأن المجون الذي كان عليه مجان العباقرة والأدباء لم يكن تصنعا وإنما كان انحرافا طبيعيا غير مقصود، عاد كثير منهم عنه حين استشعروا لقاء الله، أو كان حالة من الهروب من واقع معين، وأكثر من ذلك فالأثر والقوة في عطائهم ليس بسبب المجون بل لأنهم كانوا عباقرة بطبيعتهم.
فنزار قباني مثلا حين كتب في النضال والعروبة لم يكن أقل إبداعا من كتابته في المرأة، ولكنه اشتهر بالكتابة عن المرأة كنزعة خاصة فيه ليس يصطنعها، أو أنه أراد أن يجعل منها نافذة يرمز بها إلى ما وراءها كما يقول محبوه.
وعندما كتب الخيام رباعياته على ما عنده من مجون، لم تكن كتابة ماجنة بقدر ما هي إبداع فيلسوف، وكذلك أبو نواس وبشار وسائر المبدعين الكبار.
والأخلاق في شعر عنترة مثلا كانت فلسفة أصيلة في الحب والحرب، واستطاع أن يصور شمائل الفارس العربي والرجل الشريف والعاشق العفيف من خلال قوته الإبداعية، وقضيته التي عاشها وعاش من أجلها وهو جاهلي لا يعرف دينا.
ورأينا زهير يكتب بشعره أمثالا استطاعت أن تبقى سائرة حتى الآن، كلها في الحكمة والخلق والشمائل، وبسبب أحداث كانت ملحة أظهرت مثل ذلك الشعر.
وإذا خرج المثقف عن رصانته ضاع معه شيء كثير، لأن القلق والانحراف مدعاة للفوضى الفكرية والشتات الذهني وضعف الإنتاج وضياع الوقت، وليس أضر على الأدب والفكر من ظهور شخصية المتماجن عليه، ولذلك نرى أديبا فذا مثل زكي مبارك كثير المجون الشخصي، إلا أن أدبه وفكره كان غاية في الرصانة والالتزام، ونحن نمدح أدبه وعطاءه ولا نمدح مجونه.
وكان الأستاذ العقاد وهو أسطورة ثقافية في التاريخ يسمي نفسه صوفيا، ويرى أن التصوف والتقشف والزهد في متاع الحياة هو السبيل للوصول إلى أعماق الحقيقة.
والمثقف العالمي بكل تنوعاته لا يفصم بين الأخلاق والثقافة، بل هو المدافع الأول عنها، والطليعة في الدعوة إليها، وما من مثقف إلا وله في الدفاع عن الحياة والمجتمع وتحليل الظواهر والإشكاليات صولات وجولات، وكثير منهم قدم حياته في سبيل ذلك.
وعندما ينتشر المجون الأخلاقي عند المثقفين فإن ذلك إعلان بانتهاء جيل كامل ودورة تاريخية.
يقول ابن قتيبة في أدب الكاتب: (ونحن نستحب لمن قبل عنا وائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مروءته عن دناءة الغيبة، وصناعته عن شين الكذب).
إن الكاتب أو المثقف يحتاج إلى عمر فوق عمره، فكيف يهدر رأس ماله وأساس قضيته؟ والمثقف الذي يقود الناس فكرا ووعيا لا نفع منه إن لم يكن رافعا لراية الأخلاق.
والكاتب المثقف مطالب بآداب كثيرة في مشروعه وعطائه منها: رصانة الألفاظ ودقة المعنى، وأدب الخطاب، وصحة المعلومة، وبعد ذلك يأخذ الناس ويذرون حسب مشاربهم ومذاهبهم في الفكر والأدب والسلوك، أي إن المثقف مطالب أخلاقيا بالصدق والأدب وعدم تضليل الآخرين، بل يكون مرشدا وبوصلة للحياة الفكرية والاجتماعية.
وهناك ما لا يحصى من النماذج الأخلاقية والسلوكية للكتاب والمثقفين نستعرضها في وقت لاحق إن شاء الله.