طوبى للغرباء

(بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء).. «حديث شريف رواه مسلم».

(بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء).. «حديث شريف رواه مسلم».

الاثنين - 16 فبراير 2015

Mon - 16 Feb 2015



(بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء).. «حديث شريف رواه مسلم».

طالما انشغلت بتأمل هذا الحديث الشريف، وطالما احترت في فهمه، رغم أن له رواية تفسيرية يسأل فيها الرسول الكريم: «.. من هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس».

هذه الرواية التي اعتمد عليها كبار شارحي الحديث، لم تحسم موقفي العقلي تجاه هذا الحديث البليغ، لأنني ظننت أن الشراح إنما انحازوا إلى الفهم المباشر، وقصّروا عن الدخول في عمق المعنى الذي يكشف عنه كلام النبي الخاتم.

ويمكنني اختصار روح كل ما اطلعت عليه من شروح لهذا الحديث، باقتباس بعض ما قاله فيه العلامة عبدالعزيز بن باز: «.. هؤلاء هم الغرباء في آخر الزمان، هم الذين يستقيمون على دين الله عندما يتأخر الناس عن دين الله، عندما يكفر الناس، عندما تكثر معاصيهم وشرورهم يستقيم هؤلاء الغرباء على طاعة الله ودينه، فلهم الجنة والسعادة، ولهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة».

يلجأ الشراح إذن إلى المقابلة البسيطة بين الكفر والإيمان، ويستنتجون من كلام نبي الله، أن المؤمنين في آخر الزمان سيكونون قلة مضطهدة، وهكذا فإنهم سيكونون غرباء، وقد فاز من كان منهم..

لكنني أعتقد أن هذا التفسير – على صحته - إنما هو تفسير لسطح المعنى وليس لأعماقه بعيدة الغور..

وهاكم اجتهادي التفسيري المتواضع..

الإسلام ثورة متكاملة الأركان، على الجهل والتخلف والغلظة وانعدام الحس الإنساني، الإسلام تمرد عقلي وعملي على الانصياع الأعمى لما أورثنا إياه آباؤنا وأجدادنا من منظومات فكرية وعملية تحكم سلوكنا، دون أن نتأملها تأملا نقديا، ونفرز ما فيها من غث وسمين..

الإسلام رحمة شاملة مضادة لكل ما من شأنه أن يمس كرامة الإنسان في كل مكان وزمان وتحت أي ظرف.. الإسلام ثورة في سبيل الإنسانية، ثورة شعارها الرحمة والسلام.. هذا هو جوهره الأصيل، الجوهر الذي حدد ملامحه منذ بزغ فجره في مكة قبل أكثر من أربعة عشر قرنا..

لكن ديننا الحنيف، ككل الثورات الكبرى في تاريخ البشر، يساء تأويله أحيانا، وينسى جوهره بمضي الوقت، فيتحول بين أيدي بعض أتباعه إلى دين من الطقوس والحركات الآلية الخالية من المضمون، أو إلى سيف مصلت على رقاب البشر، يهددهم بالذبح والتحريق..

فصرنا نرى من المسلمين من يحرص على العبادات، حرصه على الحياة، لكنه قبل صلاته وبعدها، وحش مؤذ لا يسلم من شروره مخالطوه، أو هو لص مرتش، يستحل أموال الناس بالباطل..

وصرنا نرى من يزعمون أنهم (الدولة الإسلامية) والمنافحون عن بيضة الدين ورسالته، لكنهم يضربون أوقح الأمثلة على التجرد من جوهره الثابت الأصيل، الذي يمكن اختصاره في كلمتين لا غير: الرحمة والعدل.

إن قراءتي المتواضعة للحديث الشريف الذي يزين صدر هذا المقال، مبنية على إدراكي الدائم بأن الغربة التي يتحدث عنها الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما هي غربة عن الجوهر، وليست إعراضا عن المظهر، إنها سوء فهمنا الأليم لطبيعة الثورة العظمى التي قادها محمد بن عبدالله، ليطهر العالم من التفرقة العنصرية ووأد البنات وعبادة الأحجار ومن الفظاعات التي يرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان..

وحين يعتقد بعض المسلمين أن رفع راية هذا الدين إنما يتحقق بالاغتيال والتفجير والاسترقاق والتشريد وإيذاء المدنيين الآمنين من خلق الله، حين يعتقدون أن (الدولة الإسلامية) ستشيد على قمة جبل من جثث الناس، لتتردد فيها تأوهات المعذبين من الأبرياء أطفالا وعجائز ونساء، حين يعتقدون ذلك، مؤمنين به إيمانهم بالدين ذاته، فإنهم يحققون نبوءة نبي الرحمة، ويعيدون الإسلام إلى غربته الأولى، بين جاهليين غلاظ، قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة..

الإسلام الآن غريب بين أبنائه، تماما كما قال الرسول الكريم، غريب لأن بعض من ينتسبون إليه، يعجزون عن إدراك روحه المضيئة باللين والرحمة والمحبة للبشر جميعا، بل لكل الكائنات الحية (في كل ذات كبد رطبة صدقة)، و(دخلت امرأة النار في هرة..)..

اللهم يا رحمن يا رحيم اجعلنا من الغرباء في هذا الزمان.. طوبى للغرباء!