محمد الحاجي

صراع السرديات

السبت - 04 فبراير 2017

Sat - 04 Feb 2017

المسجد الكبير، مدينة كيوبك الكندية، الأحد مساء: وبعدما تراصت الصفوف لأداء صلاة العشاء، اخترق المسجد شاب جامعي أبيض ذو توجهات شوفينية يمينية وأطلق النار ليصرع 6 من المصلين ويجرح 19 آخرين، في جريمة هي الأولى من نوعها في هذه المدينة الوادعة.



تسابقت وكالات الأنباء العالمية لتغطية هذا الخبر الهام. احتوت التغطية الإعلامية على عنصرين هامين ومألوفين بعد أي جريمة مشابهة: 1) الاستباق إلى اتهام عناصر عربية أو مسلمة، كما أشارت لذلك شبكة فوكس في حسابها على تويتر بأن المشتبه به ينحدر من أصول مغربية. 2) أما الديلي ميل في نسختها الأمريكية، وبعد إلقاء القبض على المتهم الأبيض، وصفته بأنه «ذئب وحيد»، وهو المصطلح الإعلامي البديل لنزع أي صفة «إرهابية» عن المجرم والجريمة.



لحسن الحظ أن كلا الخبرين تعرضا لنقد لاذع، فحذفت فوكس تغريدتها بناء على طلب رئيس الوزراء الكندي، الذي اعتبر الخبر مضللا ومسيئا، والذي أعلن أن جريمة مسجد كيوبك هي جريمة «إرهابية» بلا أي مواربة لغوية. وفيما يخص خبر الديلي ميل، فلقد قادت الروائية الشهيرة «جي كي رولينج»، كاتبة سلسلة هاري بوتر، حملة النقد وكتبت في حسابها أن هذا الشاب الأبيض هو «إرهابي» وليس «ذئبا وحيدا» كما وصفته الصحيفة. لماذا كل هذا الاهتمام الرسمي والشعبي على مفردات لغوية عابرة؟



الخطاب الإعلامي والسياسي عبارة عن قصص وسرديات يتم حبكها وفق التوجهات الخاصة بأصحاب المصالح والنفوذ. وتكمن أهمية السردية في كونها مادة أساسية في تشكيل الوعي الشعبي والذاكرة الاجتماعية. فعل ذلك هتلر لتحقيق رؤيته الطهورية لألمانيا، فصنع السرديات الموائمة لتفوق العرق الآري والمناهضة للأعراق الأخرى، ليتمظهر هذا الخطاب في أحياء الجيتو والهولوكوست. وقبل أن ينطلق الرئيس جورج بوش في مغامرته لغزو العراق عام 2003، حرص على تهيئة المبررات الفكرية والأخلاقية لهذا القرار السياسي، وتم حينها صياغة سردية «أسلحة الدمار الشامل»، وسردية «الإرهاب العالمي» ليصبح هذا الخطاب الضوء الأخضر لانتهاك الأراضي العراقية.



نعلم أن «التاريخ» مفهوم هلامي وفكرة سائلة قابلة للتشكيل حسب الوعاء. التاريخ لا يسرد الحكاية كلها وإنما يعكس نسخة واحدة تم الاتفاق عليها لأغراض معينة وحسب توزيع القوى. وعادة ما تكون النسخة المشهورة هي نسخة النخبة عن طريق احتكارهم لأدوات المعرفة. هي تشبه دالة رياضية: كلما زادت القبضة على الحركة الإعلامية والمدنية والأكاديمية، تحركت نسخة التاريخ (المشهورة) في منحنى واضح لتصبح مع الزمن (النسخة الوحيدة)

ومن هنا تأتي الحاجة الماسة لمقاومة السرديات الرسمية عن طريق التدوين الشخصي والتوثيق الشعبوي والعمل الأكاديمي الجاد ما أمكن لذلك سبيلا.



هذه المهمة هي عملية إنقاذ ودفاع، فصراع السرديات هو صراع البشر وحرب باردة بين الطبقيات - حرب غير عادلة بطبيعة الحال، ينتصر فيها القوي ليكتب التاريخ وحده ويشكل وعي الناس وحده. «يعتقد الناس أنهم هم من يحبكون القصص، بينما في الحقيقة، القصص هي ما يحبك وعي الناس»!