البناء الشعري في همزية الرقيات

يستطيع المتأمل لهمزية عبيدالله بن قيس الرقيات في مدح مصعب بن الزبير أن يلمس مدى حسرته على تفرق قريش من بعد اتحاد، وأن يلمس أيضا مدى حسرته على مجدها الذي كان ملء السمع والبصر

يستطيع المتأمل لهمزية عبيدالله بن قيس الرقيات في مدح مصعب بن الزبير أن يلمس مدى حسرته على تفرق قريش من بعد اتحاد، وأن يلمس أيضا مدى حسرته على مجدها الذي كان ملء السمع والبصر

السبت - 09 أغسطس 2014

Sat - 09 Aug 2014



يستطيع المتأمل لهمزية عبيدالله بن قيس الرقيات في مدح مصعب بن الزبير أن يلمس مدى حسرته على تفرق قريش من بعد اتحاد، وأن يلمس أيضا مدى حسرته على مجدها الذي كان ملء السمع والبصر.

يقول:



حبذا العيش حين قومي جميع

لم تفرق أمورها الأهواء

قبل أن تطمع القبائل في ملك

قريش وتشمت الأعداء

أيها المشتهي فناء قريش

بيد الله عمرها والفناء

إن تودع من البلاد قريش

لا يكن بعدهم لحي بقاء



ومن هنا نجد تكرار كلمة قريش بصورة لافتة، وقد أسهم هذا التكرار في البنية الدلالية والإيقاعية لهذه القصيدة، وقد بدت بنية المفارقة ذات وضوح بارز، وبدت تجلياتها بين زمنين، زمن ماض ذي ألق خاص، حين كان قوم الشاعر من قريش وحدة واحدة، لم تفرق أمورها الأهواء، وزمن حاضر بدا في طمع القبائل في ملك قريش، كما بدا في شماتة الأعداء بها أيضا.

كما تجلت بنية المفارقة بين متصارعين قريش والشاعر ضمنها من ناحية، والقبائل التي تريد فناءها من ناحية أخرى.

كما تبدو بنية المفارقة التصويرية بين مصعب بن الزبير من ناحية، حيث يبدو في هذه القصيدة، وكأنه شهاب من الله، وبين الآخرين من ناحية أخرى، حيث يبدون وكأنهم ظلماء، كذلك تبدو بنية المفارقة بين الشاعر والزمن، حيث رأينا نكبات الزمن تجعل رأسه كالثغامة.

وقد كان لهيمنة صور المفارقة الدلالية دور واضح في استدعاء بنى تحمل في طياتها سمة التضاد، سواء على المستوى اللفظي أم على المستوى الصرفي، أم على المستوى التركيبي.

فقد ظهرت بنية التضاد منذ البيت الأول بين: جميع/ تفرق ـ عمرها/ الفناء ـ تودع/ بقاء ـ يبقى/ تذهب ـ شهاب/ الظلماء ـ يرجع/ فات ـ البادون/ العاكفون.

وقد بدا أسلوب الشرط ذا حضور قوي في القصيدة وهو أسلوب يستدعي مفهوم التلازم بين الشرط وجوابه.

يقول: إن تودع من البلاد قريش لا يكن بعدهم لحي بقاء، فهناك تلازم بين فناء الأحياء وذهاب قريش من البلاد.

وهذا يبث دلالة الأهمية الكبيرة لقبيلة قريش في الحفاظ على الناس.

كما جاء البيت التالي الذي يحمل بنية شرطية أيضا مكرسا لهذا المفهوم.

فيقول: لو تقفّى وتترك الناس كانوا غنم الذئب غاب عنها الرعاء، فيستعين ببنية التشبيه التمثيلي المنتزع من بيئة الذات الشاعرة في تكريس أهمية قبيلة قريش في الحفاظ على حياة الناس من أعدائهم، الذين يشبهون الذئاب.

أما بنية الشرط في البيت التالي وهو: لو بكت هذه السماء على قوم كرام بكت علينا السماء، فإنها تكرس أيضا لأهمية قريش الفائقة، فإذا كان للسماء أن تبكي على قوم كرام فإن بكاءها سيكون على قبيلة قريش.

ولا يخفى اعتماد الشاعر الحرف لو في بنيتين شرطيتين من ثلاث بنى، وهو حرف يفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط.

كما يدل على ثقته الكبيرة ـ رغم حزنه الشديد ـ في بقاء قريش.

كما تبدو بنية الإنشاء ذات هيمنة واضحة على هذه القصيدة.

مثل حبذا العيش حين قومي جميع.(مــــدح).أيها المشتهي فناء قريش.(نـــداء).هل ترى من مخلد.( استفهام إنكاري).

كما أسهمت البنى التصويرية الجزئية في بنية القصيدة الكلية، وفى إنتاج الدلالة التي تمخض عنها النص.

ومن هذه البنى البنية التشبيهية في قوله: إن تقفى وتترك الناس كانوا غنم الذئب غاب عنها الرعاء، فقد جعل الشاعر من قريش رعاء، ومن الناس غنما، وإذا غابت قريش / الرعاء فإن الناس / الغنم سيكونون فريسة للأعداء / الذئب.

ويبدو أثر البيئة الصحراوية واضحا في هذا التشبيه.

أما البنى الاستعارية فلها حضورها القوي في هذه القصيدة، ومنها: لو بكت هذه السماء على قوم كــــرام بكت علينا السماء، فقد جعل الشاعر من السماء إنسانا يبكي على الكرام من البشر..ومما يلفت النظر في هذه البنية الاستعارية أنه أسند فعل البكاء وهو في أغلبه يشير إلى الانكسار والحزن إلى السماء، وهى تستدعي معنى السمو والرفعة، لكن استخدام أداة الشرط لو التي تفيد امتناع جواب الشرط بسبب امتناع فعله حوّل مؤشر الدلالة من الجانب الواقعي الحقيقي إلى جانب المبالغة.

أما بنية التقديم والتأخير فلها أيضا حضورها القوي اللافت في هذا النص للشاعر عبيدالله بن قيس الرقيات.

وكان لهذا التقديم والتأخير إسهامه الواضح في البنية الموسيقية والدلالية معا، فأحيانا يرصد الشاعر كلمة معينة للقافية فيؤخرها عن موقعها الطبيعي، ويقدم عليها غيرها، فتتحقق سمة إيقاعية ودلالية، يقول: حبذا العيش حين قومي جميع لم تفرق أمورها الأهواء، فكلمة الأهواء هي الفاعل لكلمة تفرق، وكلمة أمورها موقعها النحوي مفعول به، لكن الشاعر لو حافظ على الترتيب الطبيعي للجملة، وقال لم تفرق الأهواء أمورها لما تحققت السمة الإيقاعية والدلالية لهذا التقديم والتأخير.

فقد تحققت السمة الإيقاعية برصد كلمة الأهواء للقافية، فبدت القافية قمة إيقاعية للبيت، كما حافظ التقديم والتأخير على البنية الموسيقية لبحر الخفيف / فاعلاتن ـ مستفعلن ـ فاعلاتن.

كما بدت البنية الدلالية في التركيز على تفرق الأمور الذي هو واقع ضاغط على الذات الشاعرة.

وبدت السمة الدلالية في قوله (بيد الله عمرها والفناء) في إلقاء الضوء، والتركيز على أن عمرها والفناء بيد الله قبل كل شيء، ومن هنا كان لتقديم شبه الجملة بيد الله دور في إبراز ذلك.



* جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب